ارتدادات أزمة "النداء" تصيب اليسار التونسي

17 يناير 2016
آمن كثيرون بالسبسي لجعل اليسار أساساً في المشهد(ماهر جيدين/الاناضول)
+ الخط -
تواجه الأحزاب التونسية مآزق عديدة. ويبرز في هذه الأيام تحدٍ جديدٍ في ظل التطورات السياسية المتلاحقة مع انشقاق حزب "نداء تونس"، الذي يعاني من نزيف حاد وفقدان متزايد للمصداقية. ففي حين تبرأ الأمين العام السابق للحزب محسن مرزوق، من هيمنة "التجمّعيين" على الحزب نسبة إلى أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، ووجّه انتقاداً حاداً لخصومه داخل الحزب متهماً إياهم بالاستسلام لحركة "النهضة"، التي نجحت حسب اعتقاده في اختراق "الندائيين"، قام في المقابل المتحدث الرسمي باسم "الجبهة الشعبية"، حمة الهمامي، بتوجيه الخطاب مباشرة إلى مرزوق، قائلاً له "أنت الذي دافعت سابقاً عن ضرورة التحالف مع التجمعيين ومع حركة النهضة، ثم تقول الآن العكس".

عندما سقط الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، وغادر السلطة والبلاد، ظن اليساريون بأن اللحظة التاريخية التي انتظروها منذ عشرات السنين قد أزفت، واعتقدوا أن السلطة قد أصبحت في متناول أيديهم. لكن الفوز الذي حققته حركة "النهضة" في أول انتخابات نزيهة بعد إسقاط بن علي بعثَر أوراق اليسار، وجعل المجموعات والتنظيمات ذات الخلفية الماركسية تدرك أنها أمام خصم عنيد ويتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة. كما وجد اليسار نفسه مقسّماً وعاجزاً عن بناء وحدته الصلبة، على الرغم من اعتقاد زعمائه بأن الظرف مناسب لتحقيق انتصار "تاريخي" في تونس.

آمن الكثير من اليساريين بأن الالتفاف حول الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، يمكن أن يُشكّل فرصة ومدخلاً لإعادة صياغة مشهد جديد، يكون اليسار جزءاً أساسياً فيه ومنه. وفي هذا السياق كثر الحديث عند مرحلة تأسيس "نداء تونس" وبعدها عن الروافد المُشكّلة للحزب. وبما أن اليساريين الذين خاضوا هذه التجربة لم تكن لديهم شخصية كارزماتية قادرة أولاً على توحيد صفوفهم، إضافة لافتقارهم إلى ماكينة انتخابية تستطيع أن تواجه الجهاز التنظيمي القوي للإسلاميين وأن تنافسه، فقد اضطروا إلى أن يستثمروا ورقة السبسي، الذي نجح نسبياً في تحقيق الانتقال السياسي بسلاسة عندما تولى رئاسة الحكومة بعد الثورة بقليل، فيما احتاج إلى بناء تحالف مع أبناء الحزب الحاكم السابق الذين وجدوا أنفسهم بلا قيادة ولا هيكل يوحّد صفوفهم بعد صدور حكم قضائي بحل "التجمع الدستوري الديمقراطي".

اقرأ أيضاً: مبادرة السبسي لإنهاء الصراع: تحييد الابن حتى عقد المؤتمر

ظنّ الكثير من اليساريين أنهم، سينجحون في استثمار رأس المال البشري للعدد الكبير من "التجمّعيين" و"الدستوريين" الذين التحقوا بـ"النداء"، من دون أن يمكّنوهم من المشاركة الفعلية في قيادة الحزب وفي صناعة السياسات، وذلك بحجة سحب البساط من المعارضين الذين يتهمون الحزب بكونه مجرد واجهة لعودة النظام القديم.

من جهتهم، رفض يساريو "الجبهة الشعبية" بناء كتلة سياسية كبرى مع حزب السبسي، لكنهم تحالفوا معه للإطاحة بحكومة الترويكا وإخراج حركة "النهضة" من السلطة. وعملوا على جرّ "النداء" في مسار خطير عندما حاولوا خلال ما سمّوه بـ"اعتصام الرحيل" إقناع قادته بضرورة إيقاف المسار الانتقالي والعودة إلى نقطة الصفر من خلال إسقاط الحكومة وحل المجلس الوطني التأسيسي، والزحف على المؤسسات المركزية والمحلية، وذلك بالاستعانة بالجيش والأمن. حصل ذلك بعد الإطاحة بـ"الإخوان المسلمين في مصر". وهو السيناريو الذي رفضه السبسي يومها وأيّده في ذلك أبرز اليساريين الذين شاركوه تسيير الحزب، الذين أخذوا برأيه أن إزاحة حركة "النهضة" من السلطة يجب أن تمرّ عبر الانتخابات.

كما رفضت "الجبهة الشعبية" الاشتراك في حكومة "النداء" على الرغم من إلحاح اليساريين من داخل الحزب الفائز على أهمية هذه المشاركة، وهو ما جعل إدخال "النهضة" في السلطة ضرورة قصوى لبناء حكومة مستقرة. أما اليوم فإن بعض قادة "الجبهة" ينكرون ذلك، ويتهمون رفاقهم بالأمس بكونهم المسؤولين عن إعادة الاعتبار لخصمهم المشترك ممثلاً في "النهضة".

هكذا تناقضت حسابات اليساريين بعد الثورة، مما جعلهم يراهنون على التصعيد السياسي من خارج الحكم، عساهم يضعفون بذلك خصومهم على المستويين الأيديولوجي والسياسي. لكن هذه التناقضات داخل العائلة اليسارية أثمرت نتيجتين متعارضتين مع المصالح الأساسية لليسار التونسي عموماً بمختلف مكوّناته. تتمثّل النتيجة الأولى في تقديم خدمة كبرى لحركة "النهضة"، التي كلما انقسم اليساريون تراجع الضغط عليها، وتوفّرت لها فرص أكبر للمناورة وبلورة صورة إيجابية قائمة بالأساس على وجود حزب متماسك و"برغماتي".

أما النتيجة الثانية فتتمثّل في دعم الدستوريين، وتمكينهم من العودة إلى أجهزة الدولة بأقصر الطرق، إذ يجري حالياً فرز أيديولوجي وسياسي داخل حزب "نداء تونس"، ويكثر الحديث داخل التيار الدستوري أو التجمعي عن "مخاطر اليساريين واستحالة التعايش معهم". في المقابل، يشن اليساريون اليوم من داخل "النداء" وخارجه، هجوماً مضاداً للتيار الدستوري داخل الحزب. وبالتالي فإن الجميع يخدمون أيضاً حركة "النهضة"، ويوفرون فرصة لإنهاء العداوة التي كانت متحكّمة بين الإسلاميين والدستوريين التي دامت نحو أربعين عاماً.

في خضم هذه التحوّلات المتسارعة، يرى قادة "الجبهة الشعبية" أن الظرف أصبح مناسباً للاستعداد للحكم، وهم يراهنون في ذلك على تفكك "نداء تونس"، كما يستندون أيضاً في توجّههم هذا إلى حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ويعتمدون في هذا السياق على الاتحاد العام التونسي للشغل. ويعتبر قادة "الجبهة" أن التجربة اليونانية قابلة لكي تتكرر في تونس، فهل تصدق توقعاتهم؟

اقرأ أيضاً: كتلة نيابية واستقالات جديدة داخل "نداء تونس"

المساهمون