تكتيكات المقاومة الشعبية في مواجهة العقيدة الاستيطانية

29 يناير 2023
الأعلام الفلسطينية أثناء مظاهرة في مدينة نابلس (زين جعفر/فرنس برس)
+ الخط -
مع بناء الاحتلال لجدار الفصل العنصري، وتراجع قدرات فصائل المقاومة بعد انتفاضة الأقصى (2000-2005)، تصاعد الحديث عن المقاومة الشعبية، على اعتباره مساحة اشتباك دائم مع الاحتلال في الضفة الغربية، ونطاق احتجاج فاعل ومؤثر. إلى جانب فعاليات مكونات المجتمع المدني، وتحالفاتها الدولية، باستقدام المتضامنين الأجانب لنقاط التماس مع الاحتلال إبان بناء الجدار؛ مثل بلعين ونعلين والنبي صالح في رام الله، تبنت حركة فتح في مؤتمرها السادس (2009) المقاومة الشعبية خيارًا استراتيجيًا لمواجهة الاحتلال في الضفة الغربية، ثم انطلق أعضاء لجنتها المركزية للانخراط في المسيرات الأسبوعية، التي كانت تنتشر في قرى رام الله وقلقيلية تحديدًا. استمر حضور المقاومة الشعبية خيارًا متبنى من قبل النظام السياسي الفلسطيني، لكنه بقي غير مستجيب للتحولات المحلية، والتغيرات في برامج حكومات الاحتلال المتعاقبة، والانقلابات الإقليمية والدولية منذ ذلك الوقت.

أشكال محدودة ومفهوم فضفاض

مثلت المقاومة الشعبية نطاق عمل فضفاضًا؛ لم تعرف فلسطينيًا، ما قاد لفهم متفاوت، بين الخشنة والسلمية وواسعة الانخراط، يشير نائب رئيس حركة فتح؛ محمود العالول، في مؤتمر حركة فتح الأول للمقاومة الشعبية، إلى هذا النطاق العريض، حين يصف المقاومة الشعبية بأنها "ممتدة من مقاطعة بضائع الاحتلال إلى المقاومة الشعبية في الميدان، بهدف حشد العالم إلى جانب الحق الفلسطيني".
تستند عقيدة الاستيطان إلى إقصاء الفلسطيني وحصره في معزله، والتهام ما تبقى من أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتحويل الفلسطيني إلى مقيم لا أكثر
على الأرض، مثلت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، العنوان التنظيمي للمقاومة الشعبية، التي عملت بدورها على مواجهة مشاريع الاستيطان في المناطق المسماة ج غالباً، عبر الاحتجاج الشعبي والتواجد في الميدان والاعتصام وعقد المؤتمرات الصحافية بوجود السفراء الأجانب، ما عطل العديد من مشاريع الترحيل وبناء البؤر الاستيطانية، من أبرز هذ النجاحات قضية الخان الأحمر.
رغم فاعلية الهيئة بهذا الأسلوب، إلا أنها قدمت نماذج محدودةً ومنظمةً من المقاومة الشعبية، افتقرت في معظم الأحيان إلى الحضور الجماهيري الشعبي الواسع، ما وضع مفهوم "الشعبية" تحت المجهر، كما عجزت كل الجهود والمبادرات حتى اللحظة عن بناء منظومة مستدامة وحساسة ومستجيبة لتحولات المشروع الصهيوني في الضفة الغربي، خاصةً بعد صعود الصهيونية الدينية المتطرفة إلى مواقع صنع القرار في الحكومة الإسرائيلية، وإعلانها الصريح عن مشاريعها لإنهاء ما تبقى من آمال فلسطينية بدولة واستقلال.
ملحق فلسطين
التحديثات الحية
بهذا، ما زال الجدل حول المفهوم قائمًا على جميع مستويات الفعل والتفكير الاستراتيجي الفلسطيني؛ دون حسمه، ودون بناء منظومة استجابة فاعلة. كما تبرز عدة أسئلة تتصل بأدوات التنظيم والإدارة ومحفزات الانخراط والاستجابة لقيود الاحتلال.
على مستوى الأسلوب، إلى جانب حملات مقاطعة منتجات الاحتلال ومنتجات المستوطنات، التي تتسم بالموسمية ومحدودية الفاعلية، برزت المسيرات الأسبوعية؛ إما في مواقع المشاريع الاستيطانية والمناطق المهددة بالمصادرة، أو في المواقع الدائمة التي يتركز فيها بطش جدار الفصل العنصري، فترت هذه المسيرات وتحولت إلى موسمية في مواقع عدة، كانت قد شهدت زخماً أكبر في سنواتها الأولى.

الاحتلال...أدوات مواجهة متجددة

يحدِّثُ الاحتلال من أدوات مواجهة المقاومة الشعبية، عبر استهداف أعضاء لجان المقاومة الشعبية المنتشرة في الضفة، ومنعه؛ عبر إجراءاته القمعية، تكوين لجان حراسة للقرى والمناطق المستهدفة، وملاحقته المتضامين الأجانب ووضعهم على قوائم حظر الدخول، وصولًا إلى ملاحقة المتضامنين الإسرائيليين.
مثلت المقاومة الشعبية نطاق عمل فضفاضًا؛ لم تعرف فلسطينيًا، ما قاد لفهم متفاوت، بين الخشنة والسلمية وواسعة الانخراط
تظهر قرية حوارة، جنوب نابلس، نموذجًا لعجز الفلسطينيين عن مواجهة اعتداءات المستوطنين عبر أدوات المقاومة الشعبية، فالشارع الرئيس للقرية مسار إجباري بين شمال ووسط الضفة الغربية، ما يجعله نقطة مكتظة بالمركبات الفلسطينية والإسرائيلية. بدأ شبان البلدة منتصف العام الفائت "معركة العلم"، حيث رفعوا العلم الفلسطيني على أعمدة الكهرباء والبنايات في الشارع، ليقوم المستوطنون؛ بحماية جيش الاحتلال، بإنزاله، وسط مناوشات مع أهل البلدة، ليعود أبناء حوارة؛ التي التهم الاستيطان 80% من أراضيها، إلى رفع العلم مرة أخرى.
م تكن هذه المعركة مجرد فعل ورد فعل، بل كانت محاولة من قبل حزام المستوطنين الأكثر تطرفاً؛ بمحيط البلدة، تثبيت سياسات جديدة ترسخ السيادة الإسرائيلية الحصرية على النطاقات البصرية في الضفة المحتلة، هي سياسات جديدة تتطلب قراءة واستجابات سريعة؛ لم تحدث، ما أدى إلى نشر الاحتلال جنوده انتشارًا دائمًا في البلدة، وإغلاق ثمانية شوارع رئيسة فيها؛ خنقها، مع حماية أكبر للمستوطنين واعتداءات أكثر حدة على الفلسطينيين، وصلت لإعدام الشاب عمار مفلح في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في جريمة وثقت عبر فيديو صادم تداولته وسائل التواصل الاجتماعي.

أزمات الفعل وتحدياتها

مثلت هبة الكرامة 2021 نموذجًا حيًا وملهمًا للمقاومة الشعبية في السياق الفلسطيني، التي؛ إن كانت تجربة قصيرة، تعتبر امتدادًا لتجارب فلسطينية سابقة منذ العام 1920. حملت هبة الكرامة حالة انخراط واسع للفلسطينيين في كل مكان؛ في الداخل والخارج، كما أفرزت إضراب الكرامة؛ غير المسبوق منذ العام 1936، كونه اضرابا شمل كل الأرض الفلسطينية وكل الفلسطينيين. كانت الهبة نموذجًا غير مألوف من الانخراط الشعبي الواسع، لم يكن له حل ضمن "حقيبة" المعالجات الأمنية الإسرائيلية، لكن؛ في ظل غياب النواظم الجمعية وأدوات الاستجابة، لم يبن على هذه التجربة.
إن التحولات التي شهدها المجتمع الفلسطيني؛ خلال العقدين الأخيرين، أفرزت جيلًا مختلفًا بمفاهيمه وأدواته ولغة خطابه، هذا ما عكسته الهبة، فقد قدمته جيلًا متحفزًا موحدًا قادرًا على مخاطبة العالم، يمتلك أدوات الخطاب الرقمي بفاعلية، لكن هذه التحولات ما زالت غائبة عن مساحات تدخل فواعل المقاومة الشعبية، التي لم تبن على التجربة وتطور منها.
تعود أزمة الفواعل؛ في الأساس، إلى أزمة غياب برنامج تحرر وطني واضح المعالم، بالتالي واضح الأدوات والاستراتيجيات، فإن كانت معظم الفصائل الفلسطينية تعلن أن المقاومة الشعبية إحدى أدواتها الاستراتيجية؛ على الأقل، إلا أنها لا تمتلك رؤية واضحة حول كيفية استثمار هذه الأداة، ولا تضع برامج تفصيلية تحول هذه الأداة إلى مساحة عملياتية فاعلة، لا على المستوى الجمعي ولا على المستوى الفصائلي.
يتطلب أي برنامج واضح لتبني المقاومة الشعبية؛ أداة تحرر وطني، إدماجها في كل تفاصيل العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على مستويات النخب والجماهير، هذا ما يتطلب دفع أثمان، وإعادة هيكلة في نمطي الحياة والإدارة، بما يشمل إعادة هيكل السوق وأولويات المستهلك، ونظم التعليم والصحة، وعلاقة الفرد مع الاحتلال؛ في الضفة والقطاع، لا تبدو هذه التحولات ممكنة على المستوى العملي اليوم، في ظل نظام سوق مستفحل، وارتباط بنيوي بالاقتصاد الإسرائيلي، إذ واجهت محاولات الانفكاك عنه جماعات مصالح شديدة القوة والتأثير.
من هنا؛ لا يمكن استغراب محدودية المقاومة الشعبية، التي تظهر كتكتيك لردة فعل؛ قد تكون، مؤثر على سياسات زرع بؤرة استيطانية هنا، أو استيلاء على أرض هناك، فتنجح هذه التكتيكات، التي تعمل أيضاً على استثمار المساحات المتاحة في نظام القضاء الإسرائيلي، عبر تعطيل بعض المشاريع وتغيير مسار الجدار في بعض المواقع، إلا أنها لا تؤثر في المشهد العام.
يقول المشهد العام إن عقيدة الاستيطان تستند إلى إقصاء الفلسطيني وحصره في معزله، والتهام ما تبقى من أرض الضفة الغربية المحتلة، وتحويل الفلسطيني إلى مقيم لا أكثر، هذه العقيدة هي نظام حياة اجتماعي واقتصادي وسياسي للمستوطن، تؤثر على الفلسطيني وتحاصره بفاعلية. بالمقابل؛ لا تجد هذه العقيدة مقاومة شعبية بذات الانخراط والانتشار والتأثير، التي تحتاج حتى تحدث مظلة وطنية جامعة، ورؤية واستراتيجيات مرنة وديناميكية، وانخراطاً عموديًا؛ في كل منطقة، وأفقياً؛ على كامل الجغرافيا الفلسطينية، حتى تقف بفاعلية أمام فعل المستوطن ومشروعه.
المساهمون