في إبريل/نيسان 2022، اعتبر قائد منطقة جنين في جيش الاحتلال؛ إريك مويال، في مقابلة مع الصحافة العبرية، أن سكان جنين؛ يقصد المدينة والريف، يكرهون مخيم اللاجئين، و"معظمهم يسعى لكسب رزقه في النهاية". مضيفاً "كان الاقتصاد في جنين مجنونًا في السنوات الأخيرة. في أيام السبت، تدخل أكثر من 3000 مركبةٍ عربيةٍ إسرائيليةٍ، يأتون إلى هنا للتسوق، ويتركون ملايين الشواكل في جنين. المتاجر والتجارة مزدهرة..... إنه جيد للاقتصاد المحلي، وهو جيد لنا لأن لديهم ما يخسرونه".
منذ نهاية انتفاضة الأقصى (2000-2005)، رُسخت المقاربة الاقتصادية، ومنظومة "التسهيلات"، كأداة سيطرةٍ استعماريةٍ إسرائيليةٍ، تنتج تلقائيًا؛ وفق هذه الرؤية الإسرائيلية، استقرارًا أمنيًا. فجاءت وثيقة مؤتمر هرتسليا عام 2009 على نموذج جنين، كحالة نجاحٍ يجلب الاستقرار الأمني، عبر تخفيف القيود الاقتصادية. لكن السنوات الأخيرة، وضعت هذه المقاربة على المحك.
فرغم تصاعد القيود الإسرائيلية على الاقتصاد في جنين، والتي تصل تكلفتها إلى حوالي 6 ملايين شيكل لكل يوم إغلاق، إلا أن جنين، بمدينتها وريفها، قد صعّدت من مستويات احتضانها للمخيم على اعتباره حالة مقاومةٍ جمعيةٍ، وصولًا إلى يوليو/تموز 2023. فشهد المخيم حالة دعمٍ شعبيٍ شاملٍ غير مسبوقة، تجاوزت حسابات الربح والخسارة، التي تفهمها إسرائيل، واسقطت فرضية مويال حول انعزال حالة المخيم.
لكن ما تزال الذهنية العسكرية الإسرائيلية تطالب بمعالجة فشل القوة بمزيدٍ من القوة، وهذا طبيعي مع البنية الاستعمارية ومحدداتها
في الحقيقة، تلقت المقاومة في مخيم جنين، الدعم الشعبي الشامل لعدة أسبابٍ، هي: ابتعاد سلاحها عن الاستعراض، وابتعادها عن الاستقطاب الداخلي، وعن الصدامات المتولدة عن ذلك، ومراكمتها لإنجازاتها ولقدراتها، وهويتها الجمعية الشاملة والعابرة للفصائل، إلى جانب حالة العجز العام وغياب البدائل المقبولة فلسطينيًا. ففي جنين، من الصعب التفريق ميدانيًا بين كتيبة جنين؛ سرايا القدس، ولواء الشهداء؛ كتائب شهداء الأقصى، وهما الفاعلان الميدانيان الأبرز على الأرض، وهذا ما دللت عليه أيضًا عملية استهداف جنديٍ إسرائيليٍ خلال انسحاب القوات المهاجمة من جنين بداية يوليو/تموز 2023، والتي تبنتها كلٌ من الكتيبة وكتائب شهداء الأقصى وكتائب القسام وكتائب أبو علي مصطفى.
في عدوان يوليو؛ وظفت إسرائيل أكثر من ألف جنديٍ، مدعومين بالطيران المروحي والمسيرات، ومعززين بالمركبات المدرعة والجرافات العسكرية، في عمليةٍ واسعةٍ أطلقت عليها إسرائيل اسم "البيت والحديقة"، وأسمتها المقاومة "بأس جنين". اعتمدت قوات الاحتلال المباغتة عبر ضرباتٍ جويةٍ، تلاها تقدمٌ واسعٌ نحو المخيم من عدة محاور، تسبقها الجرافات العسكرية، التي حفرت الشوارع المؤدية إلى المخيم، تحسبًا لأية عبواتٍ ناسفةٍ مزروعةٍ. لتقوم قوات الاحتلال بضرب طوقٍ كاملٍ حول المخيم، مدعومًا بغطاءٍ جويٍ عبر مسيراتٍ استطلاعيةٍ، قبل أن تتقدم ببطء من الأطراف.
حاول الاحتلال استهداف الحاضنة الشعبية، عبر إعمال قوةٍ تدميريةٍ كبيرةٍ في البنية التحتية، وفي المنشآت والمنازل، واستُخدمت جرافة الـ D9 العسكرية، ذات القدرة التدميرية الكبيرة، التي يَحملُ أهالي مخيم جنين ذكرياتٍ صعبةً معها، منذ اجتياح 2002. كما استهدف الاحتلال أهل المخيم، عبر تهجيرٍ مرعبٍ ليلة اليوم الأول من العدوان، والذي طاول 3000 مواطنٍ فلسطينييٍ، كان إخلاؤهم من منازلهم تهديدًا مباشرًا بمسح بيوتهم، في تهجيرٍ ثالثٍ بعد نكبة 1948 واجتياح 2002.
وعلى الطرف الآخر؛ واجهت قوات الاحتلال شكلًا جديدًا في الضفة الغربية من الكمائن المدروسة، التي استَخدمت فيها المقاومة العبوات الناسفة المزروعة في الأرض، والاستهداف بمواقع محددةٍ، والانسحاب المدروس، ما قلل الخسائر في صفوف المقاومة إلى حدها الأدنى؛ اعتقالًا وقتلًا، ووضع الاحتلال أمام حلولٍ ضيقةٍ، في ظل الحسابات السياسية المصاحبة للعملية.
المخيم: الفكرة تنتشر
تكمن أهمية المخيم بالنسبة للمقاومة في كونه مساحةً آمنةً؛ نوعًا ما، يلتجئ إليها المقاومون، وينظمون أنفسهم، ويطورون قدراتهم، ويبنون خططهم، فالتجأ العديد من منفذي العمليات ضد أهدافٍ إسرائيليةٍ إلى المخيم على اعتباره مساحةً حصينةً. في عدوانه الأخير؛ هدف الاحتلال إلى كسر هذه المساحة، وتحويل المقاوم إلى مطاردٍ بلا غطاءٍ، وبالتالي إذابة الحالة في جنين، لكن هذه المساحة توسعت وكسبت حاضنةً أوسع في الريف والمدينة.
عزز العدوان الأخير؛ وما نتج عنه، مكانة جنين باعتبارها حاضنةً لمقاومةٍ شعبيةٍ شاملةٍ، ينخرط فيها المخيم والريف والمدينة، فرغم أن الاحتلال استهدف عزل المخيم وقضمه تدريجيًا، إلا أنه واجه مقاومةً عنيفةً في شوارع جنين لا المخيم، حيث دارت أعنف الاشتباكات في مركز المدينة، وفي المربع التجاري، إلى جانب مدخل المدينة الشمالي. اللافت أن المقاومة على هذه المحاور تنوعت بين مسلحة، وشعبية بالحجارة، وانخرط فيها الفتية والشبان من المدينة وريفها، في محاولةٍ لإسناد المخيم.
فشهد المخيم حالة دعمٍ شعبيٍ شاملٍ غير مسبوقة، تجاوزت حسابات الربح والخسارة، التي تفهمها إسرائيل،
في الريف، برزت دعوات لمَسيرات بالمركبات تتوجه إلى جنين، لإسناد المخيم وفك الحصار عنه، ووصلت عدة مبادراتٍ منها إلى مبتغاها، ووصل شبانٌ إلى المدينة وأطراف المخيم، واشتبكوا مع دوريات الاحتلال بالحجارة على نطاقٍ واسعٍ، إلى جانب تتابع مبادرات الدعم والإسناد المادي واللوجستي للمدينة والمخيم، خلال وبعد العدوان.
عمليًا؛ كان هذا النمط المقاوم جزءًا من تاريخ جنين، فخلال الثورة الكبرى، التي كانت المنطقة أحد أهم مراكزها، اتسمت المقاومة ومعاركها البارزة مع الاحتلال بكونها شاملةً وواسعة النطاق، كما اتسمت بانتشار "النجدات"، التي كانت تحسم المعارك مع القوات البريطانية، ومنها معركة اليامون (1938)، ومعركة جبع (1936)، وهي مجموعاتٌ من المقاتلين الذين كانوا يهبون من القرى المحيطة بموقع المعركة، لفك الحصار وفتح الثغرات. ومعركة جنين في العام 1948، التي انخرط فيها المقاومون من الريف مع الجيش العراقي، وحرروا المدينة بعد احتلالها من قبل المليشيات الصهيونية.
أيضًا، رسَّخ هذا العدوان موقع المخيم كمفهومٍ وطنيٍ عابرٍ للجغرافيا، وهي هويةٌ تراكمت خلال السنوات الثماني الأخيرة، وتوجت في يوليو، تمحورت حول اعتبار المقاومة فعلًا جامعًا، والمخيم كيانًا وطنيًا مقاومًا، وأن التناقض الواضح مع الاحتلال تناقضٌ وحيدٌ يوحد كل الفلسطينيين. ولا يمكن عزل هذا المفهوم عن جذوره في الذاكرة الوطنية الحية والمستمرة منذ العام 1918 حتى اليوم، التي تتجلى في جنين في اتصال هذه الذاكرة على مستواها المعاصر مع اجتياح 2002، كونه حالةً بطوليةً وانتصارًا بالصمود، وبين ما يحدث اليوم على الأرض، والذي يستعاد من خلاله رمزيات الاجتياح ومواجهته، في خطاب المقاومة والخطابات السياسية المحيطة، وتعود هذه الذاكرة إلى تجربة انتفاضة الحجارة 1987، التي برز فيها المخيم مساحةً حصينةً، استعصى على الاحتلال اقتحامها، ترسخت فيه بنى التنظيم الذاتي المقاوم، كما كان مخيم جنين، إحدى أهم نقاط ارتكاز الأذرع العسكرية المقاومة للفصائل الوطنية خلال تلك الفترة، كالفهد الأسود؛ فتح، والنسر الأحمر؛ الجبهة الشعبية.
وعلى المستوى الوطني؛ اعتبر الفلسطينيون في قرى التماس مع المستوطنين أن جنين ردعت هجمات المستوطنين، ولو جزئيًا. ما عمم الثقة والإيمان بالحالة وطنيًا، في ظل العجز العام، وغياب أية حلولٍ أو خياراتٍ أخرى.
لم تنجح القوة العسكرية، والمقاربة الاقتصادية، في تذويب الحالة المقاومة في جنين، بل على العكس. لكن ما تزال الذهنية العسكرية الإسرائيلية تطالب بمعالجة فشل القوة بمزيدٍ من القوة، وهذا طبيعي مع البنية الاستعمارية ومحدداتها. يتصاعد اليوم في الإعلام الإسرائيلي الحديث عن "لبننة" جنين، وسيرها بخطى ثابتة نحو نموذج جنوب لبنان، أو نموذج غزّة، من حيث تطوير القدرات العسكرية، ورفع مستوى الجهوزية، والقدرة على الانتقال من الدفاع إلى المبادرة؛ المقاومة. كما أثار الحديث عن ضبط مشاريعَ أوليةٍ لصواريخ أطلقت، أو كانت معدةً للإطلاق، خوفًا من أن يصبح "غلاف جنين" نموذجًا أكثر إيلامًا من "غلاف غزّة". لكن يبقى السؤال الأبرز الآن: ما الذي يمكن للاحتلال أن يفعله في المخيم أكثر مما فعل وفشل به، إلا المسح الشامل؟