وفي آخر تطورات قضية احتمال نجاح نجل القذافي في الهروب من المحاسبة إزاء التهم الموجهة إليه، طالبت محكمة الجنايات الدولية، أول من أمس السبت، السلطات الليبية بتسليمه إليها فوراً. وجاءت دعوة المحكمة عقب تزايد الأنباء عن سعي مجموعة مسلحة موالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، التي تتحفظ على سيف القذافي في سجونها منذ العام 2011، لرفض تسليمه للمحاكمة في طرابلس.
وإزاء رفض المحكمة الدولية إطلاق سراح سيف الإسلام، قال مدير برنامج الشرق الأوسط، سعيد بن عربية، خلال الطلب المعلن على موقع المحكمة، إنّ "منح العفو عن جرائم مثل تلك التي اتُّهم بها سيف القذافي يتنافى تماماً مع سيادة القانون، وحق الضحايا في العدالة والالتزامات الدولية لحقوق الإنسان". وأضاف أنه بدلاً من حماية سيف الإسلام من المساءلة ينبغي على السلطات الليبية تقديمه إلى العدالة. والخطوة الأولى في هذا الاتجاه أن يتم تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية"، على حدّ تعبيره.
وحتى اللحظة، لا تزال الأنباء حول خروج سيف الإسلام من السجن متضاربة. ففي الوقت الذي نفى فيه المجلس البلدي للمدينة أنباء إطلاق سراح القذافي، يؤكد آمر كتيبة أبوبكر الصديق، التي تتحفظ على سيف الإسلام في سجونها، العجمي العتيري، لــ"العربي الجديد"، أنّ الإعلان عن إطلاق سراح سيف، رسمياً، سيكون قريباً. ويؤكد أنه يسعى إلى تنفيذ قرار الحكومة التابعة لبرلمان طبرق التي طالبت مؤسسة الإصلاح في الزنتان، في خطاب رسمي، بضرورة إطلاق سراحه بناء على قانون العفو العام الصادر عن البرلمان عام 2015.
على صعيد متصل، تؤكد مصادر وثيقة الصلة بالمجلس البلدي للزنتان، لـ"العربي الجديد"، أن المجلس استقبل خلال الفترات الماضية عدداً من الشخصيات النافذة من قبيلة القذاذفة، من دون أن تسميهم، لتمكينهم من لقاء ابنهم سيف في جلسة انفرادية، موضحة أن بعض هذه الشخصيات مقيمة في مصر، وأخرى في طبرق (شرق ليبيا). وتشكك المصادر في أن يكون إطلاق سراح نجل القذافي له علاقة بقانون العفو العام الصادر عن البرلمان، أو صدور الأمر من وزارة العدل بحكومة البرلمان بضرورة إطلاق سراحه، منذ إبريل/نيسان الماضي، كاشفة عن وجود صفقة سياسية جديدة في ليبيا عنوانها سيف الإسلام القذافي.
وتشير هذه المصادر إلى أن السلطات القريبة من حفتر وجدت في خطاب وزارة العدل وقانون العفو متكأ قانونياً تستند إليه لخطوتها الأهم في الصفقة، لكن جهات قضائية منها نيابة الزنتان، أصدرت بياناً، الأسبوع الماضي، استغربت فيه صحة الإجراء الحكومي قائلة إن "الإجراء السليم يمرّ من خلال خطاب الحكومة لمكتب النائب العام والمحامي العام وهو المخوّل بتوجيه أوامره للسجون وليس من اختصاص وزارة العدل مخاطبة السجون مباشرة".
وعن كواليس هذه الصفقة السياسية، تقول المصادر ذاتها إنه "في ظل تراجع الدعم الشعبي شرق البلاد، وتنامي انشقاقات الضباط من حول حفتر، بالإضافة للخلاف المستعر في الزنتان (أقوى المعسكرات المؤيدة لحفتر غرب البلاد)، لجأ مستشارو كل من رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، وحفتر إلى وضع سياسات جديدة لتقوية الصلات برموز النظام السابق الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات قوية مع دول فاعلة أبرزها روسيا، ويتواجد عدد منهم إلى جانب البرلمان وجيش حفتر".
وتوضح المصادر أنه على الرغم من عدم اكتمال بناء هذه الصلات، فإن زيارة حفتر إلى موسكو، أخيراً، عجلت خطوة إطلاق سراح سيف الإسلام، إذ طلبت موسكو من حفتر وحلفائه السياسيين بضرورة وجود شخصيات سياسية وعسكرية ضمن منظومتهم، وفقاً للمصادر. وتحتضن روسيا جالية
كبيرة من أبناء قبيلة القذاذفة، وأسر، وعائلات النظام السابق الذين تمكّنوا، في وقت سابق، من افتتاح راديو باللغة العربية موجه إلى الشرق الأوسط يذيع برامج وأغاني تطالب بحقهم في العودة لليبيا والمشاركة في الحياة السياسية.
ويوضح مصدر مقرب من لجنة الدفاع بالبرلمان لـ"العربي الجديد"، أن "الجانب الروسي طالب بوجود السكرتير الخاص للقذافي، بشير صالح القذافي، ضمن مشاورات حفتر مع روسيا، لتفعيل اتفاقيات توريد سلاح سابقة بين نظام القذافي وروسيا، بسبب وجود بشير صالح على رأس المتعاقدين الممثلين لنظام القذافي في تلك الآونة".
وترجّح هذه المصادر أن تكون زيارات المتحدث باسم النظام السابق، موسى إبراهيم القذافي، المتلاحقة لطبرق، ولقاء عقيلة صالح رئيس مؤتمر الشعب العام السابق، محمد الزوي، أخيراً، وعلناً، في القبة، (مكان إقامة صالح)، لها علاقة مباشرة بكواليس المفاوضات. وتقول المصادر ذاتها إن منظومة حفتر السياسية والعسكرية تسعى في اتجاهات عدة لجلب ولاء رموز النظام السابق. فقد عمد حفتر إلى إطلاق سراح الطبيب اللبناني حسين حبيش، الذي كان مخطوفاً في ليبيا بعد توقيف هنيبعل القذافي في بيروت، قبل ثلاثة أشهر. وكان الخاطفون قد طالبوا بمبادلة حبيش مقابل ابن القذافي. كما قام حفتر بتعيين أقوى أركان النظام السابق عسكرياً آمرين على بعض كتائب الجنوب الليبي حيث القبائل المؤيدة للنظام السابق، لا سيما منهم علي كنه الذي استطاع استرجاع مقاتلي كتيبة "المغاوير" الأقوى جنوب ليبيا، وأعاد هيكلتها.
وتشير المصادر إلى مطالب رئيس المجلس الاجتماعي لقبيلة القذاذفة، الشيخ عبد الحميد البصبصيني، خلال اجتماعه بعقيلة صالح، في العاصمة العُمانية مسقط، حيث تقيم أسرة القذافي، والذي اصطحب معه عدداً من عمداء قبائل شرق البلاد. ومن بين هذه المطالب، "إعادة أملاك أبناء قبيلته في سبها وسرت شرطاً للمصالحة مع قبيلته، وشمول العفو العام لكل أبناء القبيلة ومنهم أسرة القذافي. ويضاف إلى ذلك، تسوية الخلافات مع شخصيات نافذة في قبيلَتي ورفلة والمقارحة المشتبه بتسهيلهما وصول دعم لوجستي لمقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سرت، والسعي في توفير ظروف بقائه بالمدينة".
كما ناقش هذا الاجتماع، وفقاً للمصادر، مقترحاً قدّمه، سابقاً، موسى القذافي، لضم شخصيات موالية للنظام السابق إلى تشكيلة حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، وحيث يسعى برلمان طبرق للإعلان عن هذه الأسماء قريباً. ويضم الاقتراح اسم مسؤول سابق لغرفة الصناعة محمد حامد، وآخر محافظ للبنك المركزي في النظام السابق فرحات قدارة، كما شمل المقترح تمكين شخصية اجتماعية قبلية كعضو في لجنة الستين لصياغة الدستور الحالي، وفقاً للمصادر. وبحسب المصادر، فإن شخصية السكرتير الخاص للقذافي، بشير صالح القذافي، لقيت دعماً كبيراً من قبل الجانبين الروسي والفرنسي، إذ كان على صلة وثيقة بهما.
وتعتبر قبيلة القذاذفة من القبائل العربية التي تشكل الجغرافيا الاجتماعية للبلاد، إذ يتمركز وجود أراضيها في أجزاء كبيرة من مدينة سرت وسط البلاد وسبها جنوبها، وامتدادات أخرى في تشاد وفي الفيوم بمصر. القبيلة الصحراوية حافظت، طيلة العقود الأربعة لسلطة ابنها معمر القذافي، على طبيعتها البدوية. وعلى الرغم من ممتلكاتها الكبيرة في العاصمة طرابلس وبنغازي وخارج البلاد، لم تتخلّ عن وجودها كقوة قبلية اجتماعية في النسيج الاجتماعي الليبي، إذ شكل حلفاؤها القدامى داعماً كبيراً لسلطة ابنها، خصوصاً قبيلة ورفلة التي ينحدر منها أبرز رجالات النظام السابق، وقبيلة المقارحة التي ينحدر منها الرجل الثاني بعد القذافي عبد السلام جلود، وأبرز أركان القذافي العسكرية جنوب ليبيا، القائد العسكري الحالي الموالي لحفتر، محمد بن نائل.
وصعدت القبيلة إبان حكم القذافي إلى مراكز السلطة، بشكل أكبر، بسبب عاملَين؛ أولهما خلو أغلب مراكز السلطة من أعوان القذافي الذين سعى بعضهم للتمرد على حكمه مثل عبد السلام جلود، وعبد الرحمن شلقم، إذ عمد القذافي إلى استبعادهم من مراكز السلطة، إما بإقالتهم ووضعهم في إقامة جبرية، كما فعل مع الأول، أو استبعاده خارج ليبيا كما فعل مع الثاني بتعيينه مندوباً له في الأمم المتحدة، ووضع عناصر من القبيلة في مراكز السلطة ليضمن بقاءه.
ويتمثل العامل الثاني في مشروع سيف الإسلام القذافي الإصلاحي الذي أُطلق عليه مسمى "ليبيا الغد" الذي جاهر، في أولى خطاباته عام 2003، بضرورة استبعاد رموز النظام السابقين الذين أطلق عليهم مسمى "القطط السمان"، وسهّل إصدار صحيفة "قورينا واويا" المعارضة بشدة لحركة اللجان الثورية. كما عمل على تمكين شخصيات حملت معها مشاريع إصلاح إداري مثل رئيس الوزراء السابق شكري غانم، ورئيس مجلس التطوير الاقتصادي السابق، محمود جبريل.
هذه الإجراءات سببت بروز ما عرف لاحقاً باسم "الحرس القديم" الذي قاده العضو البارز في اللجان الثورية، والذي شغل مناصب قيادية عدة، سابقاً، أحمد إبراهيم القذافي، لتُبرز صحيفة "الزحف الأخضر"، اللسان الناطق باسم حركة اللجان الثورية، مقالات كتبها أحمد إبراهيم ومعظم رموز الحركة المعارضة الشديدة لحركة سيف الإسلام. وتمكن الأخير من تنصيب ابن عمه موسى إبراهيم القذافي الذي شغل إبان ثورة فبراير/شباط 2011، متحدثاً باسم النظام، رئيساً لتحرير الصحيفة ليقضي على صوتها.
وبعيد انتهاء سيف الإسلام من إغلاق ملفات كانت تقض مضجع القذافي، وأهمها البرنامج النووي، وقضية طائرتَي "البانام" الأميركية، والـ"يو تي أي" الفرنسية، ونجاحه في مشروع المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية المقاتلة التي وافقت على وضع السلاح مقابل إطلاق سراح أبرز قياداتها من سجون القذافي بحكم صلاته القوية مع بريطانيا التي عاش فيها وتخرج من جامعاتها، عمل القذافي الأب على إفشال مشروع ابنه الاصلاحي بإقفال صحفه وقنواته التلفزيونية، وحبس أكثر أقلامه الصحافية الموالية له. ومكّن الأب رجالات النظام الثوري السابقين في مراكز الحكم مثل آخر رئيس وزراء في عهد النظام، البغدادي المحمودي، وآخر وزير للخارجية، موسى كوسا، وصهره، آخر رئيس لجهاز الأمن الداخلي عبد الله السنوسي، لتندلع الاحتجاجات الشعبية لإشعال فتيل ثورة فبراير التي تمكنت من الإطاحة به بعد ثمانية أشهر من القتال ضد كتائبه.