درع الشمال: حرب أعصاب وتمهيد لعدوان على لبنان

05 ديسمبر 2018
مهد جيش الاحتلال لعملية قد تستمر لأسابيع(جلاء مرعي/فرتمس برس)
+ الخط -
لم يكن إطلاق دولة الاحتلال، أمس الثلاثاء، عمليات حفر على الحدود مع لبنان بزعم هدم أنفاق هجومية لحزب الله اللبناني، مفاجئاً بشكل كلي، خلافاً لمحاولات ادعاء جيش الاحتلال أن إسرائيل تمكنت من مفاجأة حزب الله. لكن العمليات جاءت من حيث توقيتها مريحة جداً لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في ظل أزمته الوزارية وتراجع صورته بفعل تقديم الشرطة الإسرائيلية توصياتها النهائية بتقديمه للمحاكمة بتهم الفساد في ثلاثة ملفات. مع ذلك، فإن الموعد جاء عملياً ليتوج حملة يبدو أن المستوى السياسي الإسرائيلي أطلقها في أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، تحديداً منذ خطاب نتنياهو الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما أعاد الأخير لبنان إلى مركز اهتمام الاحتلال بكونه "المصدر الرئيس للخطر الذي يهدد إسرائيل" من جبهتها الشمالية، بعد أن كان الاحتلال قد توصل إلى تفاهمات مع روسيا بشأن تمكين إعادة قوات النظام السوري إلى هضبة الجولان السوري مقابل التزام كلي ومطلق ببنود وتفاصيل اتفاق فك الاشتباك بين سورية وإسرائيل في العام 1974.



وركزت الحملة الإسرائيلية ضد لبنان على مسألة اتجاه إيران لبناء مصانع لتطوير ترسانة حزب الله الصاروخية مع إرفاق ذلك بحديث إسرائيلي أيضاً عن قلق من متابعة روسيا واهتمامها أخيراً يما يجري في لبنان. لكن هذه الحملة التي توّجها الاحتلال، أمس، بعمليات الحفر في الجانب الإسرائيلي، شهدت تصعيداً منذ منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قبيل تقديم وزير الأمن أفيغدور ليبرمان استقالته من الحكومة على خلفية قبول الكابينت الإسرائيلي في حينه باتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة. ونشرت الصحف الإسرائيلية في الأسبوعين الماضيين تقارير عدة تحدثت عن تقديرات إسرائيلية بحصول تغييرات طاولت حرية "حركة سلاح الجو الإسرائيلي في سورية" من جهة، ورصد إسرائيل لتغيير في "تكتيك" إيران المتعلق بسبل تسليح حزب الله، من خلال الكف عن محاولات إرسال قوافل من السلاح عبر الأراضي السورية إلى حزب الله. وهو ما اعتبرته الصحف وكذلك المحللين، ناجماً عن ضغوط روسية على إيران بعد حادثة إسقاط طائرة التجسس الروسية فوق اللاذقية في سبتمبر الماضي. في المقابل، بدأت إيران، بحسب الادعاءات الإسرائيلية، التي كان نتنياهو قد أطلقها في خطابه المذكور من نيويورك، بإرسال العتاد العسكري اللازم لتطوير ترسانة حزب الله الصاروخية عبر الطيران المدني الإيراني في رحلاته إلى بيروت.

ويمكن القول الآن بعد إطلاق عمليات الاحتلال، أمس، والتي ستدوم لأسابيع، إنه على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي عمد إلى إظهار النفي لصحة ادعاءات سكان المستوطنات الحدودية، خصوصاً في مستوطنتي زرعيت والمطلة، بشأن سماعهم أصوات حفر تحت الأرض، أو التقارير التي أظهرت نشاطاً لعناصر من حزب الله في منطقة العديسة الحدودية، فقد كان جيش الاحتلال يحاول عملياً تضليل حزب الله من خلال استخفافه المعلن بشكاوى المستوطنين، من جهة، والتأكيد على صعوبة حفر أنفاق من لبنان باتجاه إسرائيل من جهة ثانية.

مع ذلك لا يمكن، إذا ما تم الأخذ بقول جيش الاحتلال إن العمليات تتوج نشاطاً له منذ عامين على الأقل، فصل بدء العمليات وإشهارها كعملية عسكرية بدون سياق الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل. واتضح ذلك أول من أمس، من بيان الخارجية الأميركية حول اللقاء الذي جمع، مساء الاثنين، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي جدد في تغريدة له على تويتر "التزام الولايات المتحدة بحق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها". وسبق ذلك بأسابيع سفر رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، إلى باريس، وتوجيهه عبر المسؤولين الفرنسيين رسالة تحذير للحكومة اللبنانية من أن إسرائيل لن تسلم بمواصلة حزب الله مساعيه لتطوير ترسانته الصاروخية وأنها تعتبر الحكومة اللبنانية مسؤولة مسؤولية كاملة عما يحدث في أراضيها.

وقد تكرر هذا الموقف، أمس، على لسان المتحدث بلسان جيش الاحتلال من جديد مع ترديد مقولة أن من يسيطر على دفة الأمور في جنوب لبنان هو حزب الله وأن الحكومة اللبنانية لا تقوم بمسؤولياتها، وأن حفر الأنفاق يشكل خرقاً للسيادة الإسرائيلية أولاً، وفق تعبير نتنياهو خلال لقائه مع بومبيو، وخرقاً لنص قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي أنهى عدوان تموز على لبنان وحدد منع انتشار عناصر حزب الله في الشريط الحدودي المقابل للمستوطنات الإسرائيلية.

ويبدو أن الهدف الأبرز من إشهار عمليات جيش الاحتلال أمس، والتي لم تخف وسائل الإعلام الإسرائيلية، أمس، استغرابها من إطلاق التعبير العسكري عليها كحملة عسكرية تحت اسم "درع الشمال"، مع أن المقصود وما يحدث على أرض الواقع عمليات هندسية، هو إطلاق حرب أعصاب في مواجهة لبنان وحكومته، ورفع حالة التوتر والاحتقان الداخلي في لبنان بين حزب الله والحكومة اللبنانية، عبر استغلال وتوظيف حقيقة عدم تشكيل حكومة جديدة في لبنان رغم مرور أكثر من ستة أشهر على الانتخابات اللبنانية.

ومع التغييرات الجارية في سورية أيضاً بفعل حادثة إسقاط الطائرة الروسية، يبدو أن إسرائيل تحاول إيجاد حل لتراجع مستوى التنسيق العسكري بينها وبين روسيا، بفعل سعي موسكو للاستفادة القصوى من الحادثة لجهة فرض القيود بشكل أشد على إيران كي لا يؤثر نشاطها في سورية على جهود روسيا لتكريس استقرار النظام السوري، عبر خفض مستوى وحدة الاحتكاك جراء مواصلة إسرائيل الغارات على سورية وآخرها على الكسوة، إذ لم يصدر رد فعل روسي على الهجوم الذي وقع الأسبوع الماضي. وتحاول إسرائيل في ظل هذه الظروف، التوصل إلى تفاهمات جديدة مع روسيا، مقابل توصل الأخيرة إلى نوع من التفاهمات مع إيران بنقل مركز الثقل في المواجهة الإيرانية الإسرائيلية إلى قلب لبنان. ويفسر هذا التقدير سبب إشهار جهات إسرائيلية، أبرزها مدير مركز أبحاث الأمن القومي، الجنرال المتقاعد عاموس يادلين، الجمعة الماضي، لحقيقة انخفاض حجم العمليات الإسرائيلية في سورية إلى حد الصفر تقريباً، مقابل إبرازه التغيير في السلوك الإيراني، والتفات إيران إلى تكريس دورها في العراق، وهو ما اعتبره مع ذلك خطراً على إسرائيل ينبغي الاستعداد له وعدم إغفال تداعياته.

في موازاة ذلك، يبدو أن العمليات الإسرائيلية في الجانب الإسرائيلي تستهدف استباق أي مواجهة ممكنة أو مقبلة مع حزب الله، من خلال إبطال مفعول عنصر المفاجأة من قبل الحزب، الذي لم يخف في السنوات الأخيرة في تصريحات لمسؤوليه أن المواجهة المقبلة ستشمل مفاجآت كبيرة لإسرائيل. وهدد حزب الله سابقاً، في أكثر من مناسبة، بأن المعركة المقبلة ستشمل عمليات اجتياح بري لاحتلال الجليل، أو على الأقل احتلال جزء من مستوطناته الحدودية ولو لبعض الوقت، وهي تصريحات وتهديدات يتضح الآن أن إسرائيل أخذتها مأخذ الجد. وضمّنت إسرائيل في أكثر من مرة، في تقديراتها لوضعها الاستراتيجي ولخريطة التهديدات، سيناريوهات محتملة يسعى حزب الله فيها إلى تحقيق إنجاز على مستوى الحرب النفسية من خلال الوصول إلى قلب مستوطنة حدودية أو قاعدة أو معسكر للجيش واحتلاله لبعض الوقت.

وقد استعدت إسرائيل لذلك، بحسب ما نشر في تقارير كثيرة سابقة، من خلال وضع خطة منظمة مثلاً لنقل سكان المستوطنات الحدودية إلى قلب إسرائيل وفي منطقة بيسان إلى حين انتهاء العمليات العسكرية. كما شرعت في العامين الأخيرين بتغيير المبنى الطبوغرافي للحدود بين لبنان وإسرائيل، وجرفت السفوح واقتلعت الأشجار. كذلك وضعت كتلاً حجرية وعراقيل تمنع إمكانية اجتياز الحدود عبر مركبات عسكرية لحزب الله صعوداً إلى داخل إسرائيل.

وبحسب اعتراف جيش الاحتلال، فإن عمليات الحفر والهدم للأنفاق، التي ادعى أمس أنه اكتشف أحدها وأنه يبدأ من تحت بيت سكني في قرية كفركلا وصولاً إلى حقول ومزارع مستوطنة المطلة، ستستمر لأسابيع عدة. كما روج إلى أن إبطال وهدم هذه الأنفاق قد لا يتم بالضرورة من داخل إسرائيل، ما يشي أو يوحي باحتمال استهداف هذا النفق أو أنفاق أخرى يدعي الجيش أنه سيكشفها جواً.

وإتماما للحرب الإعلامية والدبلوماسية التي بدأها الاحتلال أمس، تمهيداً لعمليات عسكرية محتملة داخل الأراضي اللبنانية، في حال جرّت عملياته ردوداً من حزب الله، أوعزت وزارة الخارجية الإسرائيلية، أمس، لوفدها في الأمم المتحدة أولاً بتسليم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس صوراً للنفق عبر التأكيد على أنه يشكل خرقاً للسيادة الإسرائيلية أولاً ولقرار مجلس الأمن الدولي 1701 ثانياً.

كما تعتزم إسرائيل شنّ حملة بروباغندا مستفيدة من هذه الصور لتهيئة الرأي العام العالمي لتوفير دفع بالغيبة لها في حال شنّ عدوان على لبنان، والادعاء بأنها تخوض حرباً دفاعية. وسارع مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، أمس، إلى تلقف الموقف الإسرائيلي ودعوة حزب الله إلى وقف أعمال حفر الأنفاق الهجومية بما يعزز التنسيق الأميركي مع إسرائيل في إطلاق العمليات.