ضغوط الداخل والخارج على "النهضة" التونسية: تحدّيات مستقبل الحركة

ضغوط الداخل والخارج على "النهضة" التونسية: تحدّيات مستقبل الحركة

28 مارس 2018
تقديرات بتصدّر "النهضة" نتيجة الانتخابات البلدية (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تمرّ حركة "النهضة" التونسية حالياً في مرحلة دقيقة للغاية وبالغة الأهمية وذات تأثير على مسارها في المستقبل، إذ تقف أمام سلسلة من التحديات الهامة التي سيكون عليها اجتيازها كلها في حيز زمني قصير وفي سياق محلي ودولي وإقليمي شديد التوتر، وسيكون عليها البحث عن طريقة للتأقلم والتفاعل مع معطيات الوضع الجديد وشروطه.

ومع اقتراب موعد الانتخابات المحلية في تونس، المقررة في 6 مايو/ أيار المقبل، تعالت أصوات في الداخل والخارج تتخوّف من فوز "النهضة" الممكن بأغلبية البلديات في تونس. وكان من الغريب أن تأتي هذه التنبيهات أولاً من الخارج، ومن فرنسا تحديداً، على الرغم من أن المخاوف داخلية أيضاً وعبّرت عنها أكثر من جهة سياسية، ولكن المواقف الفرنسية لم تتقيّد بالأعراف الدبلوماسية والدولية المعروفة، وإنما كانت رسائلها واضحة وفجّة. فقد نبّه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق جان بيار رافاران، من انزلاق تونس بسبب إمكانية فوز "النهضة" بهذه الانتخابات وصعود الإسلاميين، غير مكترث بأن ذلك إذا تحقق، سيأتي عبر انتخابات نزيهة وشفافة، مثلما كان الشأن في الانتخابات الماضية، أي بطريقة ديمقراطية.

ومع أن ذلك يتناقض مع ما كان قد صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تونس من أن هذه البلاد أثبتت ألا تَعارُض بين الإسلام والديمقراطية، فإن هناك من ترجم ذلك بأن فرنسا لا ترغب في إقصاء "النهضة" تماماً من المشهد التونسي، فقد تكون مثالاً جيداً في المنطقة على إسلام سياسي عقلاني بإمكانه التفاعل والانسجام مع محيطه، ولكن باريس تريد بوضوح ألا تكون الحركة في صدارة المشهد، أي أن تبقى "الثانية دائماً".

وترجح الأرقام بأن "النهضة" قد تحصل على أكثر من خمسين في المائة من مقاعد البلديات وربما ستين في المائة، وهو ما يقود إلى التساؤل، كيف يمكن أن تكون الحركة ثانية بعد "نداء تونس"، وهل تقبل بهذا السياق الإقليمي والدولي، وهل يمكن أن تعتمد تقنية ما لعدم الفوز كما تقدّم أغلب التقديرات التونسية نتيجة الانتخابات، فهي إن فازت في مأزق وإن خسرت في مأزق أيضاً. ويعكس الموقف الفرنسي مزاجاً دولياً وإقليمياً قلقاً من إمكانية صعود "النهضة"، وسيتوجب عليها التعامل معه والإنصات إليه بجدية، وعدم الاغترار بجاهزيتها الانتخابية المحلية وإمكانية فوزها كما يروّج عدد من أنصارها وقيادييها.


ويبدو أن "النهضة" قد شعرت بأن مسار الانتخابات البلدية قد يكون مهدداً بسبب هذه المخاوف، وربما قد يكون إسقاط الحكومة باباً لذلك، فسارعت إلى تأكيد "أولوية الاستقرار الحكومي في هذه المرحلة على أساس التقدّم في برنامج الإصلاحات ومكافحة الفساد من أجل إنجاح الانتخابات البلدية باعتبارها استحقاقاً ديمقراطياً وتنموياً، وإلى توفير أفضل الظروف لها في إطار منافسة نزيهة بين كافة الأطراف". وبدت سعيدة بتأكيد الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي خلال العيد الوطني، على أهمية موعد الانتخابات، وأعلنت في بيان "انسجامها مع تأكيد رئيس الدولة أن الثورة التونسية المجيدة أدخلت تونس عصر الديمقراطية بكتابة دستور توافقي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وضمان الحريات الأساسية، وأن إجراء الانتخابات البلدية يوم 6 مايو المقبل يمثل رمزاً قوياً لتجذير الديمقراطية".

وتؤكد الحركة أنّ النجاح في تنظيم الانتخابات البلدية في 6 مايو يُعدّ نجاحاً للشعب ولمسار الانتقال الديمقراطي في تونس وزيادة للثقة فيها باعتبارها دولة ذات سيادة، مستقرة، وجاذبة للاستثمار. ولكنها تقع بذلك في مأزق جديد، يضعها في مواجهة "اتحاد الشغل"، الذي يطالب مع جملة من المنظمات والأحزاب برحيل الحكومة، في حين تصر "النهضة" على بقائها، وهو ما سيثير صراعاً قديماً مع هذه المنظمة بعد التطبيع بينهما نتيجة جهود جبارة بُذلت في هذا الاتجاه.

على صعيد آخر، أظهرت سلسلة جلسات التصويت الفاشلة في البرلمان على أعضاء المحكمة الدستورية، أن كتلة "النهضة" فشلت في تمرير مرشحها، وأفشلت أيضاً تمرير مرشحين آخرين، ما جعل السبسي يدعو إلى التفكير في آلية جديدة للتصويت لا تستوجب ثلثي أعضاء البرلمان، والبحث عن صيغة جديدة لأغلبية أقل تُمكّن من تجاوز هذا المأزق الذي عطّل المحكمة الدستورية. ولكن هذه المبادرة قد تؤول في اتجاه البحث عن أغلبية برلمانية جديدة تستثني "النهضة"، وقد تهيئ لمشهد برلماني وسياسي جديد.

ويبقى الاختبار الأكبر للحركة، النظام الانتخابي الجديد، إذ تتجه أغلب الدعوات إلى تغييره نحو حسم الأغلبية بنظام الدورتين، وهي مسألة ستغيّر طبيعة الصراع السياسي تماماً في تونس، وتقود إلى الاستقطاب الكلي وتفرض ما يُعرف بالتصويت المفيد، وتضع "النهضة" في مواجهة كل معارضيها متحدين في الدور الثاني.

ولكن "النهضة" عبّرت عن "انفتاحها على الحوار العميق حول كل مبادرة من أجل تغيير القانون الانتخابي بما يخدم الاستقرار السياسي ويضمن التمثيل التعددي"، ولم يمانع خبراؤها في التفكير في هذه المسألة، وهو ما يوحي بأن الحركة قد تستفيد من هذا التغيير، الذي سيوضح التنافس السياسي في تونس وسيفضي إلى معسكرين سياسيين كبيرين، ما قد ينهي تشتت الأصوات من جهة، ويكون أيضاً مدخلاً للصراع على من يقود المعارضة من جهة أخرى. وكان رفض البرلمان، مساء الاثنين، التمديد لعمل هيئة الحقيقة والكرامة، مثالاً عما يمكن أن يكون عليه المشهد البرلماني والسياسي التونسي مستقبلاً، إذ وجدت "النهضة" نفسها لأول مرة في سياق معارض يصوّر مستقبلها الممكن وصراعها المحتمل مع "النداء". فقد رفض البرلمان التونسي التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة بغالبية 68 نائباً ضد التمديد بينما قرر نوّاب حركة النهضة والكتلة الديمقراطية وكتلة الجبهة الشعبيّة المؤيدون لاستمرار عمل الهيئة، الامتناع عن التصويت.

ويبقى السؤال عن كيفية مواجهة "النهضة" لجملة هذه التحديات، وتحديداً عن تماسكها الداخلي وطريقة إدارتها لكل هذه الملفات بالغة الحساسية، إذ تبدو الأصوات الداعية إلى التجديد في التعاطي مع قضايا سياسية ومجتمعية بطريقة عصرية خافتة، بينما يسيطر التعاطي التقليدي على أغلب قراراتها وهياكلها ومؤسساتها، ما يوحي بأنها لا تملك مرونة سياسية ناجعة في التعاطي مع قضايا مصيرية قد تحدد مستقبلها، وهي لم تتخلص بعد، على الرغم من التقدّم المحقق، من ثقلها السياسي التاريخي.