انقسم المشهد التونسي مجدداً إلى معسكرين، يضم الأول حركة النهضة ورئيس الحكومة، يوسف الشاهد، ومن يساند بقاءه في رئاسة الحكومة، فيما يضم الثاني كلاً من اتحاد الشغل ونداء تونس وأحزاب أخرى تتفق مع الدعوة لتغيير الحكومة جذرياً، بينما تنأى بقية المكونات بنفسها عن تداعيات هذا الصراع وضحاياه المُحتملة، وتعتبر أنه صراع لا يعنيها، مثل الجبهة الشعبية وحراك تونس الإرادة وأحزاب أخرى.
وأمام إصرار "النهضة" على دعم بقاء الشاهد على رأس الحكومة، وفشل كل محاولات إقناعها بالعكس، بدأ المعارضون في تدعيم مساعيهم لتسريع عملية إسقاط الشاهد والاستعداد لمرحلة جديدة من الصراع السياسي تلي ذلك. غير أن بعض التصريحات كشفت عن وجود نوايا لعزل حركة النهضة وإفراز توازن جديد ربما يعود إلى ما قبل انتخابات العام 2014، عندما اجتمعت أحزاب عديدة وراء الرئيس الباجي قائد السبسي وجبهة الإنقاذ، في ما سمي وقتها بـ"اعتصام الرحيل" وما تلاه من زخم انتخابي، نكثه السبسي مباشرة بعد الانتخابات بالتحالف مع منافسه، حركة النهضة، وقاد إلى تفتت ذلك الحلف من ناحية، وحتى تآكل حزب نداء تونس من ناحية أخرى.
واعتبر رئيس حزب آفاق تونس، ياسين إبراهيم، قبل أيام، أن "التوافق السياسي في البلاد (النهضة والنداء) لم يفرز نتيجة إيجابية، وكان سبباً في عزوف المواطنين عن أداء واجبهم الانتخابي"، غير أنه أكد، في الوقت ذاته، أن "عودة حزبه إلى وثيقة قرطاج مرتبط بخروج حركة النهضة من المشاورات القائمة في إطار هذه الوثيقة". وأضاف إبراهيم، في تصريح إثر اجتماع المجلس الوطني للحزب، أن "تونس لا تستطيع القيام بإنجازات اقتصادية واجتماعية في ظل وجود الفريق الحكومي الحالي"، معتبراً أن "الوضع العام بالبلاد يتجه يوماً بعد يوم نحو أرقام سلبية وسط غياب رؤية واضحة للإنقاذ"، مشيراً إلى أن حزبه سيتحالف في المجالس البلدية مع الأحزاب التقدمية فقط، على غرار نداء تونس. وللمرة الأولى يتحدث حزب آفاق تونس عن عودة محتملة لوثيقة قرطاج، بعد أن كان غادرها منذ أشهر وغادر الحكومة أيضاً، لكنه يضع شرطاً لذلك، وهو مغادرة "النهضة" للوثيقة والتحالف الحكومي الذي بني على أساسها. وتؤكد هذه التصريحات، التي جاءت إثر لقاء مسؤولين بالحزب مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يقود حملة إسقاط الشاهد، أن هناك رغبة لدى بعض الأحزاب للعودة إلى وثيقة قرطاج وتشكيل تحالف جديد، تستبعد منه حركة النهضة، أو بالأحرى تبتعد عنه "النهضة" لأنها أصرت على رهانها الجديد.
من جهة ثانية، بدأ اتحاد الشغل في شن هجوم فعلي على الحكومة، والاستعداد لمواجهتها على الأرض، داعياً "الشغالين (العمال) للاستعداد للدفاع عن حقوقهم بكل الطرق المشروعة". واعتبر الاتحاد، في بيان، أن الزيادة الحاصلة في المحروقات والزيادات اللاحقة المبرمجة "التي أملتها الدوائر المالية العالمية على الحكومة"، ستزيد الأثقال على كاهل الشعب وتأزيم وضع المؤسّسات الاقتصادية التونسية، وإدخال البلاد في دوامة زيادات ستؤدي إلى مزيد من تدهور المقدرة الشرائية للشعب وتسريع وتيرة التهريب والسوق الموازية وتوسيع نطاقهما. وحذر من أي إجراء إضافي يؤدي إلى رفع أسعار المواد الأساسية، بما فيها المواد المدعومة والأدوية، وكذلك الخدمات الاجتماعية كالنقل وغيرها، ويعتبر الإقدام عليها عاملاً مباشراً لمفاقمة التوتّرات. وحمّل "الحكومة وكل الأطراف المتداخلة مسؤولية ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في البلاد، خصوصاً تفاقم التوتر الاجتماعي"، مشدداً على "الحقّ في الاحتجاج بكل الطرق السلمية".
وطفت على السطح مجدداً دعوات لجمع ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية"، وهي تسمية يراد بها جمع الأحزاب باستثناء "النهضة"، أي استبعادها من المشهد. والغريب أن الشاهد نفسه كان عبر أيضاً عن رغبته في تجميع "العائلة الديمقراطية"، بعد أن ينتهي مسار تصحيح حزب نداء تونس، في تلميح واضح إلى "تطهيره" من حافظ قائد السبسي ومن حوله، الذين تسببوا بتدمير الحزب، على حد تعبيره. ومع اشتداد الخلاف بين حليفي الأمس، السبسي ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، وإصرار الأخير على إبقاء الشاهد في اجتماعهما الأخير، يبدو أن النوايا في إعادة تجميع الغاضبين من "النهضة" تتجسد فعلياً، بل لعلها الخيار الوحيد المتبقي أمام هؤلاء، ما يعني أن "النهضة" ستجد نفسها معزولة تقريباً مع الشاهد. وبرغم أن تجميع "العائلة الديمقراطية" أثبت أيضاً فراغه من محتوى سياسي فعلي، وتسببه في تشظي مكوناتها بحكم تعدد المشاريع والطموحات الشخصية، فإن هذه الوضعية تطرح أسئلة كثيرة على حركة النهضة، حول ما إذا كانت قادرة على الصمود أمام مساعي إسقاط الحكومة عبر جمع 109 نواب لسحب الثقة منها؟ وحول ما إذا كانت مستعدة وقادرة على الحكم مع الشاهد لوحدهما، ومواجهة اتحاد الشغل وبقية المنظمات والأحزاب في مسار لن يتوقف في 2019؟
ويطرح مراقبون أسئلة أخرى حول إصرار الغنوشي على ربط مصير "النهضة" ومصيره بالشاهد، والخلفيات الحقيقية لهذا الموقف، وتداعيات ذلك على الحركة وعلى الاستقرار السياسي إذا نجح معارضوهم في إسقاط الشاهد وإبعاد "النهضة" عن الحكم؟ وكيف يمكن أن يكون التوازن داخل البرلمان بخصوص الهيئات الدستورية والقوانين المهمة المتبقية إذا دخل الجميع في صراع سياسي؟ أسئلة كثيرة لا تبدو الحركة غافلة عنها، فقد شهدت تحركات مهمة أخيراً بين قيادات الحزب والكتلة البرلمانية، وجرى تنسيق المواقف بشأن هذه الملفات المهمة، غير أن ما لم يتضح حتى الآن هو حجم الرهان الحقيقي الذي تضعه الحركة على بقاء الشاهد والتشبث به.