وأدّت الحرب الأهلية، التي اندلعت في جنوب السودان، بعد عامين فقط من انفصالها عن السودان، إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح أكثر من مليوني شخص، لجأوا إلى السودان ودول أخرى مجاورة. ويُعدّ الاتفاق الأخير الذي استمرّت الخلافات حوله لنحو أسبوعين، ثالث اتفاق يوقّع خلال جولة المفاوضات التي استضافتها الخرطوم منذ الخامس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، بوساطة منها وتحت رعاية منظمة "إيغاد" (الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق أفريقيا).
وإضافة إلى نصّه على عودة زعيم المتمردين لموقعه الحكومي، نصّ الاتفاق على تعيين 4 نواب آخرين لرئيس الجمهورية، على أن يكون من بينهم النائبان الحاليان، تعبان دينق وجيمس واني إيقا، في حين تختار مجموعة الأحزاب الأخرى ممثلاً لها لهذا المنصب. أما منصب نائب الرئيس الخامس، فاشترط الاتفاق أن يكون من حصّة سيدة.
وبشأن توزيع الوزرات الحكومية البالغ عددها 35 وزارة، حدّد الاتفاق منح 20 منها لحزب "الحركة الشعبية" في الحكومة بقيادة الرئيس سلفا كير، و9 وزارات للحركة الشعبية المسلحة بقيادة مشار، بينما تذهب بقية الوزارات لأحزاب وفصائل أخرى.
كذلك حدّد الاتفاق عدد أعضاء البرلمان الانتقالي بـ550 عضواً، على أن يملأ 332 مقعداً بواسطة الحكومة، مقابل تخصيص 128 مقعداً للمعارضة المسلحة، وتذهب بقية المقاعد لأحزاب الداخل والمجموعات الأخرى.
وفشلت الأطراف في التوصّل إلى اتفاق لعدد الولايات في جنوب السودان، بعد أن كان ذلك البند إحدى أبرز نقاط الخلاف. لكن الاتفاق نفسه، أقرّ تشكيل لجنة خاصة للنظر في هذا الموضوع، بحيث إنه إذا فشلت، يتم اللجوء إلى خيار الاستفتاء الشعبي للتقرير في ذلك. ودفع هذا البند مجموعة من الأحزاب إلى رفض التوقيع على الاتفاق، بحجة أنّ حكومة الجنوب الحالية، حين قرّرت إنشاء 32 ولاية لم تستفت شعب جنوب السودان.
ورغم ذلك الرفض الذي يقلّل البعض من تأثيره، فإنّ الاتفاق الأخير يُعبّد الطريق أمام اتفاق سلام شامل، لا يستبعد كثيرون التوصّل إليه بعد أيام، إذ لم يتبقّ إلا القليل من نقاط التفاوض، وهي ليست من النقاط الخلافية، مثل ملف الإصلاحات الاقتصادية للحدّ من الغلاء المعيشي. لكن صمود ذلك الاتفاق الكلي لا يزال محلّ شكّ لدى الكثير من المراقبين للتطورات في جنوب السودان.
فمنذ اندلاع الحرب والنزاع بين سلفا كير ومشار في ديسمبر/ كانون الأول عام 2013، على خلفية إعفاء الأوّل للأخير من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، توصّل الطرفان إلى عدد من التفاهمات أبرزها وأهمها اتفاق السلام الذي وُقّع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تحت رعاية "إيغاد" نفسها في عام 2015، وهو الاتفاق الذي انهار قبل أشهر قليلة من تنفيذه في يوليو/تموز 2016. هذا عدا عن العديد من الاتفاقيات الخاصة بوقف إطلاق النار الذي تبادلت الأطراف الاتهامات بخرقها لعشرات المرات.
ولتحقيق ذلك الصمود، تعتقد الحكومة السودانية، الوسيط الرئيس في المفاوضات، على لسان وزير خارجيتها، الدرديري محمد أحمد، أنّ "فرص تنفيذ الاتفاق والوصول به إلى برّ الأمان متاحة أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً أنّ الاتفاق مرتبط بشقّين مهمين؛ أوّلهما محاولة معالجة جذور الأزمة وليس أعراضها، وذلك من خلال بناء مؤسسات قومية بعيدة عن القبلية، وثانياً من خلال ربط الاتفاق نفسه بخطة لإنعاش الاقتصاد في جنوب السودان، عبر إعادة ضخّ النفط عبر الموانئ السودانية، لا سيما بعد الاتفاقيات التي توصّلت إليها حكومة السودان مع حكومة الجنوب، مع الالتزام بتخصيص الموارد البترولية في بنود التنمية وتطوير الخدمات، بدلاً عن صرفها على الأمن وكُلفة الحرب.
كذلك، يرى آخرون أنّ الاتفاقيات الجديدة ستصمد أكثر من سابقاتها، بسبب عامل الضغط الدولي الممارس على كل الأطراف، والتلويح لقياداتها بفرض عقوبات تصل إلى حدّ الملاحقة الجنائية الدولية، واتهامها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى بيان للإدارة الأميركية قبل أيام الذي دانت فيه بشدة تمديد حكومة جنوب السودان شرعية وجودها عبر قرار برلماني، استباقاً لنتائج مفاوضات الخرطوم. ولوّح البيان بالعقوبات في حال عدم بموافقة حكومة جوبا على اتفاق تقاسم السلطة نفسه، الذي ظلّت تتحفّظ عليه طوال الأيام الماضية.
وحتى منظمة "إيغاد" التي ترعى المفاوضات، ضاقت ذرعاً بتلكؤ الأطراف وتردّدها في التوصّل إلى اتفاق سلام، وكادت أن تصدر في قمتها في أديس أبابا الشهر الماضي قراراً بإغلاق ملف التفاوض، واللجوء إلى فرض العقوبات بالتنسيق مع المجتمع الدولي. إلا أنّه تمّ التراجع عن ذلك التوجه بطلب من السودان الذي تحمّس للتوسط بين الأطراف وتعهد بتحقيق اختراقات. وهذا ما حدث خلال نحو ثلاثين يوماً من المفاوضات في الخرطوم.
أمّا ثالث العوامل التي تؤشّر لإمكانية صمود اتفاقيات فرقاء الأزمة في جنوب السودان، فيتعلّق بالتنسيق العالي الذي تمّ بين الخرطوم وكمبالا، لإدارة ملف الوساطة. فالرئيس الأوغندي، يوري موسفيني، هو الرئيس الوحيد الذي شارك في الجلسة الافتتاحية لمفاوضات الخرطوم، وأسهم في وضع مقترحات للحلول، وردت في نصوص إعلان المبادئ الأولي الذي تمّ التوصّل إليه بعد يومين فقط من انطلاق العملية التفاوضية. وحين استعصى على الجميع تجاوز مطبّات تقاسم السلطة، اضطر الرئيس السوداني عمر البشير، للذهاب إلى كمبالا في السابع من الشهر الحالي، للقاء موسفيني، ومن ثمّ المشاركة في اجتماع موسّع ضمّ إلى جانبه وموسفيني كلّاً من سلفا كير ومشار، وهو الاجتماع الذي وضع الخطوط العريضة لاتفاق تقاسم السلطة.
كل ذلك التنسيق، السوداني–الأوغندي، سيقلّل من حدة الاستقطاب بين الجانبين في ملف جنوب السودان، فليس سراً أنّ كمبالا دعمت بشكل مباشر حكومة الجنوب في حربها على المتمردين، وقد قصف الجيش الأوغندي مواقع للمتمردين داخل الأراضي الجنوبية. وكذلك الخرطوم، ظلّت في محل اتهام متكرّر بدعم المعارضة المسلحة بزعامة مشار الذي لديها معه علاقات تاريخية.
وتضيف الصحافية الجنوب سودانية، ليزا نيلسون، لـ"العربي الجديد"، ميزة إضافية للاتفاقيات الجديدة، باعتبارها "صناعة وطنية وبأيادٍ سودانية"، حيث "الوطن الأم" الذي يفهم، حسب قولها، "نفسية أطراف النزاع في الحكومة والمعارضة، ويدرك ثقل كل جهة". وتعتبر نيلسون أنّ الضغوط الدولية، سواء من المجتمع الدولي أو الاتحاد الأفريقي أو "إيغاد"، "ستعزّز فرضية صمود الاتفاقيات"، مشيرةً إلى أنّ "الحالة الإنسانية التي وصل شعب جنوب السودان إليها، من نزوح ولجوء، ستفرض كذلك على الأطراف كلها التمسّك بما تمّ التوصّل إليه من اتفاق الحدّ الأدنى".
وترى نيلسون أنّ "المقابل الموضوعي لفشل المفاوضات أو أي نتائج سلبية بخرق الاتفاق، هو خيار فرض الوصاية الدولية على البلاد، أو حتى التفكير في العمل على مقترح عودة جنوب السودان إلى الوطن الأم".
أمّا المحلّل السياسي، عقيل أحمد ناعم، فيقول لـ"العربي الجديد"، إنّ أهمّ ضامن لصمود ما تمّ التوصّل إليه في الخرطوم، هو "العامل الأخلاقي في المقام الأول، إذ إنّ الأوضاع الإنسانية في الجنوب بلغت ذروة السوء، ولا يمكن لأي وطني حقيقي تحمّل وزرها إذا استمرت الحرب، وبات لزاماً على الأطراف الجنوبية وضع حدّ لمعاناة أهلهم، هذا غير عامل الضغوط الدولية، وتحديداً على سلفا كير ومشار".
في المقابل، يعدّد الصحافي السوداني، عبد الباسط إدريس، لـ"العربي الجديد"، أبرز العقبات التي ستعترض تنفيذ الاتفاق؛ ومنها "أزمة الثقة بين أطراف جنوب السودان، خصوصاً بين سلفا كير ومشار، إضافة إلى تعقيدات الترتيبات الأمنية، إلى جانب التأثيرات القبلية والإثنية في جنوب السودان، والتي قد تلقي بظلال سلبية على تنفيذ الاتفاق"، بحسب إدريس، الذي يشير أيضاً إلى "هشاشة التكوينات السياسية والعسكرية، والتي يتوقّع معها حدوث انشقاقات داخلية"، مثل ما حدث في الحركة المسلحة التي يزعمها مشار، إذ انشق عنه في يوليو/ تموز 2016 الرجل الثاني في الحركة، تعبان دينق، وتقرّب فيما بعد من سلفا كير، الذي عينه في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
ويضيف إدريس عامل "الطموحات الزائدة لسلفا كير ومشار نفسيهما"، ولا يستبعد "حدوث سباق سياسي بينهما"، تمهيداً لخوض الانتخابات الرئاسية بعد ثلاث سنوات، طبقاً لما جاء في الاتفاق. كما أنّ تحدي إعمار الدولة التي دمرتها حرب 5 سنوات سيكون حاضراً أيضاً، وفق الصحافي السوداني.