الغرفة الواحدة... وسيلة الغزيين للاحتماء من عدوان الاحتلال

الغرفة الواحدة... وسيلة الغزيين للاحتماء من عدوان الاحتلال

09 اغسطس 2022
دمر العدوان الإسرائيلي عشرات من منازل غزة (محمد الحجار)
+ الخط -

عادة ما تتحول إحدى غرف المنزل إلى ملجأ يجمع أكبر عدد ممكن من الأفراد الباحثين عن أمان مؤقت، فالتلاصق قد يمنح شعوراً ببعض الأمان خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة.

عاش أهالي غزة عدواناً إسرائيلياً همجياً خامساً خلال 13 عاماً فقط، ما يزيد من تلاحمهم الاجتماعي بعد كل عدوان، لكن تكرار المجازر، ونقص الإمكانات والخدمات العامة يؤثران على استقرارهم النفسي، ويدفعان غالبيتهم خلال القصف إلى البقاء في غرفة واحدة من المنزل، وعادة ما تكون غرفة الجد أو الجدة، أو غرفة الوالدين، فهذا يشعر الجميع بنوع من الأمان.

يقع منزل الفلسطيني فؤاد المصري (70 سنة) في منطقة المقوسي غربي مدينة غزة، ويعيش فيه 19 فرداً من أبنائه وأحفاده، وكانوا جميعاً يقضون معظم الوقت في داخل غرفته خلال أيام العدوان الإسرائيلي الأخير الثلاثة. كانت هذه الغرفة بالنسبة لأبنائه وأحفاده غرفة الأمان، ومحاولات تناسي هموم العدوان وأزماته، وتجاهل الخوف من أصوات الإنفجارات.

قد يتغاضى الغزيون عن بعض فقدان حاجياتهم الأساسية أثناء الأزمات مقابل الشعور ببعض الأمان الأسري، فمع كل هجمة صاروخية أو قصف مفاجئ، تنطلق الطفلتان سما (7 سنوات) وندى (9 سنوات) نحو جدهما، وتضمانه بقوة كلما يتعالى أصوات الانفجارات، وهو ما يفعله باقي الأطفال مع أمهاتهم، أو آبائهم إن كان حاضرين في الغرفة.

يعتبر المصري أن البقاء في غرفة واحدة أثناء العدوان الاسرائيلي، أو الاجتياحات والقصف، أمر مألوفٌ لدى الفلسطينيين عموماً، والغزيين على وجه التحديد. يقول لـ"العربي الجديد": "الأمر ليس جديداً علينا. في أيام حظر التجول خلال السبعينات والثمانينات وبدايات التسعينات، كنا نعيش نفس هذا الجو، حينها كان الاحتلال الإسرائيلي يقوم بإلقاء قنابل الغاز تجاه الفدائيين".

ويضيف: "كان دخان القنابل المحمل بالغاز الحارق يدخل إلى الغرف التي تطل على الشوارع، وكانوا يلقونها بكثافة ظناً أن الفدائيين يختبئون في أزقة وشوارع مخيم جباليا، والذي كنت أسكنه خلال فترة الانتفاضة الأولى، وكانت طلقات الرصاص تصيب الأبواب، أو تخترق جدران الغرف، وكثيراً ما أصابت وقتلت أفراداً من الغزيين، لذا كنا نفضل التجمع سوياً في غرفة واحدة".

الصورة
أطفال غزة بلا ملجأ يحميهم من القصف (محمد الحجار)
أطفال غزة بلا ملجأ يحميهم من القصف (محمد الحجار)

في العدوان الإسرائيلي الأول بين عامي 2008 و2009، كانت عائلة آلاء راضي (35 سنة)، تتجمع في غرفة واحدة من منزل جدتها سُعاد، في حي الشيخ رضوان، قبل أن تتوفى الجدة في عام 2013. كان المنزل قديماً، قبل أن يُعاد ترميمه في عام 2018، وكان يعيش فيه أكثر من 30 فرداً، وأثناء العدوان، كان الكل يتجمعون في غرفة كبيرة كانت مخصصة لإقامة جدتها.

ليست هذه تجربة العدوان الأولى بالنسبة لها، وهي التي خسرت 8 من أفراد عائلتها وعائلة والدتها خلال فترة الإقامة بالغرفة الواحدة في عدوان سابق، وكانت شاهدة على صدمتهم بعد تلقي الأخبار الحزينة.

تعيش راضي تجربة البقاء مع أفراد العائلة في غرفة واحدة للمرة الخامسة، لكن هذه المرة في منطقة الشيخ عجلين، بالقرب من شاطئ بحر غزة، والمنطقة كانت ضمن الأهداف الإسرائيلية في العدوان الأخير.

تقول لـ"العربي الجديد": "الكثير من التفاصيل تتكرر خلال تواجدنا في الغرفة، وخصوصاً الصراخ والخوف والقلق، والارتجاف في معظم الوقت، وحتى الضحك من دون سبب أحياناً، لأننا أحيانا نحرص على القليل من تجاهل الواقع، أو نحاول الهرب مما نعيشه، ويمكن أن تجد البعض يلعبون الورق في أحد جوانب الغرفة، فنحن بشر، ولم نخلق لنعيش المأساة، ومع كل قصف إسرائيلي يشتد التصاقنا ببعضنا، وعناقنا لبعضنا".

تتذكر السيدة الفلسطينية بعضاً من أكثر المواقف صعوبة، والتي تكررت في كل مرة كانت تقتضي البحث عن الأمان في غرفة واحدة، وأبرزها ترقب الجميع، والأطفال خصوصاً، لأخبار الهدنة، أو وقف إطلاق النار.

الصورة
الأزمات النفسية تلازم الأطفال والكبار بسبب تكرار العدوان (محمد الحجار)
الأزمات النفسية تلازم الأطفال والكبار مع تكرار العدوان (محمد الحجار)

كان عمر شقيقتها الصغرى لمياء راضي يبلغ 10 سنوات خلال فترة العدوان الأول، وكلما كبُرت، وتكرر العدوان، كانت لمياء تواصل ترقب الأخبار، فهي شخصية قلقة، وهذا يؤثر في من حولها، ويبلغ عمرها حالياً 23 سنة، لكنها عاشت العدوان خمس مرات، وقضت فترات كل عدوان منها في غرفة واحدة مع أفراد عائلتها.

يقول بعض الغزيين إن البقاء في غرفة واحدة أفضل للكل، وإنه حتى لو وقعت الكارثة، فإنها ستقع على الجميع، وليس على فرد واحد من العائلة. كتب الشاب الفلسطيني عرب زقوت، عبر حسابه في موقع "فيسبوك"، أن والدته قالت له أثناء العدوان الأخير: "خلينا يما في غرفة واحدة، منشان لو انقصفنا محدش يضّل يتحسر على الثاني".

نجت زينب القولق (22 سنة) من مجزرة إسرائيلية سابقة راح ضحيتها 22 فرداً من العائلة بعد قصف مبان في شارع الوحدة، خلال العدوان الاسرائيلي السابق في مايو/ أيار من العام الماضي، وكانت القولق تنشر خلال العدوان الأخير تفاصيل من ذكرياتها الصعبة، وكيف كانت أسرتها تقبع داخل غرفة واحدة، وكيف قضت المجزرة عليهم في تلك الغرفة، وأنها كانت الناجية الوحيدة، بينما استشهدت والدتها وإخوتها الثلاثة.

تقول زينب: "كنت معهم في ذات الغرفة، أو بوصف أدق، كنت ملتصقة بهم، والغرفة كانت مليئة بالناس، لكن جميعهم استشهدوا، كل من بالغرفة استشهدوا ما عداي، للأسف ما عداي أنا، كانت غرفة مليئة بالشهداء، وكان رائحة البيت شهداء، وقلبي لايزال ينزف منذ عدوان مايو 2021 لغاية اللحظة".

على مدار السنوات الأخيرة، تلقى عدد من الغزيين جلسات تثقيفية قدمها عدد من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية، من أجل تعريفهم بطرق التعامل مع الأحداث في وقت الحروب، وكانت تلك الجلسات تتضمن إرشادات حول السلامة والأمان، ومنها توصيات بعدم التجمع في مكانٍ واحد في المنزل خلال القصف من أجل تقليل الأضرار.

الصورة
يزيد العدوان أهالي غزة حرصا على التجمع (محمد الحجار)
يزيد العدوان أهالي غزة حرصا على التجمع (محمد الحجار)

تعتبر أمال رضوان (40 سنة) من حي الشجاعية، أن تلك الإرشادات والدورات التثقيفية ساعدتها إلى حدٍ كبير، ومثلها سكان الحي، في التعامل مع الأزمات، وخصوصاً كيفية التعامل مع حالات الإصابة التي تتطلب إسعافات أولية بعد أن تعرض الحي لمجزرة إسرائيلية بشعة في عدوان صيف 2014.

لكنها في الوقت نفسه، تؤكد عدم إمكانية تقسيم أفراد العائلة في ذات البناية، أو الشقة، مشيرة إلى أن قطاع غزة لا يشبه الداخل الفلسطيني المحتل، إذ "لا ملاجئ عندنا مثلهم، وأبناؤنا يخافون ويريدون البقاء ملاصقين لنا".

تضيف رضوان لـ"العربي الجديد": "أطفالي يرفضون النوم في غرفهم خلال العدوان، فالشبابيك تهتز خلال التفجيرات، وفجأة تنير السماء باللون الأحمر، ولداي سامر (14 سنة) ورضوى (15 سنة) لا يزالان يتذكران المجزرة الإسرائيلية في عام 2014، وبالنسبة لهما، فإن عناق الأم والأب والأخوة هو ملجأهما الأهم، فنحن بالأساس محاصرون في علبة صغيرة".

شهد حيّ الشعوت في وسط مخيم رفح، مجزرة يوم السبت 6 أغسطس/ آب، بعد أن قامت طائرات الاحتلال بقصف منازل المخيم القديمة، واستشهد في المجزرة 7 أفراد، وأصيب العشرات.

أعادت تلك المجزرة إلى ذاكرة أحمد قشطة (34 سنة) تفاصيل مجزرة الجمعة السوداء، والتي وقعت في بدايات شهر أغسطس من عام 2014، وراح ضحيتها العشرات.

خلال العدوان الأخير، كان قشطة بالقرب من المخيم، وأسرع إلى المنطقة التي تعيش فيها شقيقته وأطفالها، وقد وجدهم جميعاً في الشارع، وثلاثة من أطفال شقيقته في أحضان والدتهم، وكانوا ينتظرون مجيء أحد ينقلهم إلى مكان آمن. كانوا مذعورين، وقضوا الليلة السابقة كاملة في نفس الغرفة مع والدتهم، وقد استشهد والدهم في العدوان الإسرائيلي الذي وقع في العام الماضي.

يتذكر قشطة أن عدداً من أفراد عائلته وعائلة والدته، ومنهم أطفال، راحوا ضحية مجزرة الجمعة السوداء، عندما كانوا يحتمون في غرفة واحدة، ونفذ الاحتلال مجزرة إبادة استمرت ساعتين خلال وقت الظهيرة، وكان أحد المشاهد التي لا ينساها، عندما انتشلت جثث أم تحتضن أبناءها تحت نفس السقف المدمر، وقد تسببت له بصدمة نفسية حينها، وتعافى منها بعد وقت طويل.

يقول قشطة لـ"العربي الجديد": "نحن نؤمن أنه لا وجود لأي أمان، حتى لو خصصت ملاجئ في قطاع غزة لحماية المدنيين، فإنها ستقصف من الاحتلال، والحجة بالنسبة لهم ستكون أن تلك الملاجئ تضم أهدافاً عسكرية، والغزيين بحاجة إلى الشعور بالأمان، وغرفة واحدة تتسع للكون الذي يريدونه في لحظات الحرب، وفي نفس الوقت نعلم أننا يمكن أن نموت في نفس الغرفة".

المساهمون