تواصل تركيا العمل على إنشاء مدن طبية متكاملة، بهدف جذب مزيد من السياحة العلاجية، فضلاً عن تطوير إمكانيات القطاع الصحي المحلي، وينتظر أن يصل عدد تلك المدن إلى 35 خلال السنوات المقبلة.
افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أخيراً، مدينة "أتليك" الطبية في العاصمة أنقرة، والتي تصنف أحد أكبر مجمعات الرعاية الصحية، نظراً لاحتوائها على ثمانية مشاف، وأكبر مركز للبحوث السريرية في البلاد، وتبلغ مساحتها الإجمالية مليوناً و22 ألفاً و725 متراً مربعاً، وتضم 1000 عيادة، و125 غرفة عمليات، و4050 سريراً، من بينها 691 سريراً للعناية المركزة.
وفي إبريل/ نيسان 2020، عبر أردوغان خلال افتتاحه المدينة الطبية بمنطقة باشاك شهير بمدينة إسطنبول، عن حلمه بتحويل بلاده إلى مركز استشفاء عالمي عبر بناء مدن طبية كبرى، وقال إن "إنشاء المدن الطبية كان أكبر حلم لي عندما اعتليت منصب رئاسة الوزراء، ونحن نولي قطاع الصحة الأهمية اقتداء بالسلطان العثماني سليمان القانوني، والذي أبدى استعداداً لتدخل الدولة كلها من أجل رعاية صحة شخص واحد".
وتابع الرئيس التركي المضي في حلمه بافتتاح مدينة "أتليك" الطبية، لتكون الثانية في العاصمة بعد مدينة أنقرة الطبية "بيلكنت" التي تعد الأكبر في أوروبا، والتي جرى افتتاحها في عام 2019.
ويشير أردوغان إلى اقتراب تحقيق حلمه قائلاً: "بلغ إجمالي عدد المدن الطبية العاملة حالياً في عموم تركيا 20 مدينة، وهناك 13 مدينة أخرى تحت الإنشاء، ومدينتان قيد التخطيط، وسنحول كل مدينة طبية إلى علامة فارقة وطنياً ودولياً من خلال توحيد إمكاناتنا البشرية والتكنولوجية".
ويقول مدير مشفى "إسطنبول طب"، نذير زرزور، إن مفهوم المدن الطبية التي بدأته تركيا في مطلع عام 2017، يتمحور حول إقامة مجمعات طبية تضم عدداً من المشافي في تخصصات مختلفة ومتكاملة، وتوفر الكشف والبحث وصولاً إلى علاج الأمراض جميعها باستخدام التكنولوجيا الحديثة والكوادر المتخصصة، مضيفاً أن "تركيا اتخذت قراراً بالتحول إلى مركز علاج عالمي، لذا رأينا افتتاح نحو 20 مدينة طبية، وفي الخطة إقامة 15 مدينة أخرى خلال السنوات المقبلة".
ويضيف زرزور لـ"العربي الجديد"، أن "زمن الرعاية الصحية المتهالك والمشافي الكئيبة ولّى في تركيا إلى غير رجعة، ولم يعد لطرق العلاج في مراكز التسعينيات مكان أو رواد، لأن ما يمكن اعتباره (ثورة إصلاحات الرعاية الصحية) أعلنتها حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2003، وبدأ التحول إلى المدن الطبية في عام 2017 من خلال أول مدينة طبية بولاية مرسين، لتصبح البلاد حالياً من الدول التي تستقبل مئات آلاف المرضى، والإحصاءات تشير إلى تقديم 175 مليون خدمة طبية في تلك المدن منذ افتتاحها حتى الآن".
ويؤكد الطبيب التركي أن بلاده "حجزت مكانها العالمي في تخصصات التجميل، وزراعة الشعر، وأطفال الأنابيب، وفي مجال السياحة العلاجية، لم يعد جذب مليوني شخص للعلاج سنوياً أمنية بسبب استخدام أحدث التقنيات، والمنافسة بالأسعار، فضلاً عن التكامل في المدن الطبية الذي نقل تركيا إلى بلد جاذب للاستشفاء، خاصة بعد جائحة كورونا التي أثبتت تميز القطاع الطبي التركي، في حين انهارت منظومات صحية بدول كبرى".
وحول أهمية المدينة الطبية الجديدة، يشير زرزور إلى أن "أتليك جاءت مكمّلة للخطة الحكومية، ومتكاملة مع مدينة بيلكنت الطبية، والأخيرة هي الأكبر بين المدن الطبية حتى الآن، إذ يمكنها استقبال 30 ألف مريض يومياً، بينهم 8 آلاف حالة طارئة، وفيها أكبر معمل طبي في تركيا، ومنطقتان لهبوط وإقلاع المروحيات، وتتميز بمشفى الأورام والعلاج الإشعاعي، وهي مدينة متعددة الوظائف، بما في ذلك الجراحات المعقدة بالدماغ، وتصنّف الأكبر في أوروبا لجهة العلاج الإشعاعي، والثالثة على مستوى العالم في هذا المجال، وعدد المشافي فيها ستة مشاف مختلفة، في حين أن المدينة الجديدة (أتليك) تضم ثمانية مشاف، لكن مدينة (بيلكنت) أكبر وأكثر تخصصاً".
وتستمر تركيا بخوض السباق نحو مراكز متقدمة على خارطة السياحة العلاجية العالمية، وقد بلغت المركز الخامس بعد الولايات المتحدة، وألمانيا، والهند، وتايلاند، وربما هي الأولى في زراعة الشعر، والثالثة في زراعة طفل الأنبوب، ويتوقع الباحث أوزجان أويصال، التقدم مجدداً بعد وصول عدد المدن الطبية إلى 35 مدينة خلال العقد المقبل.
ويوضح أويصال لـ"العربي الجديد"، أن المدن الطبية التركية يجري إنشاؤها بالتشارك بين الحكومة والقطاع الخاص، ومدينة باشاك شهير الطبية كانت بالتعاون مع اليابان، ومدن طبية أخرى أنشئت بالتعاون مع كبرى الجامعات، والاستثمارات تتم وفق نظام (بي.أو.تي) أي البناء مقابل فترة تشغيل، ما يعني أن ملكيتها ستؤول للدولة بعد انقضاء فترة الاستثمار التي يُتفق خلالها على نسبة أرباح للأطراف المتشاركة".
ويبين الباحث التركي أن "أحزاب المعارضة تنتقد نهج الحكومة الخاص بالمدن الطبية لأسباب، من بينها الزعم بأن الحكومة تدخل القطاع الخاص في القطاع الطبي، الأمر الذي قد يؤثر على مستوى المشافي الحكومية، أو يرفع أسعار العلاج، رغم أن العلاج في المدن الطبية مشمول وفق نظام التأمين الصحي، والسبب الثاني ادعاء أن الحكومة تبدد أموالاً كثيرة في هذه الاستثمارات التي تراها المعارضة بهرجة مبالغاً فيها على حساب قطاعات أخرى كالتعليم"، مذكراً بالخلاف بين الحكومة ورئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، قبيل افتتاح مدينة باشاك شهير الطبية في عام 2020، والذي تمثل في إيقاف المترو الواصل إلى المدينة الطبية، وما قيل عن نفقات كبيرة على بناء الطرق الواصلة للمشفى".
ويبين أويصال أن أهم المدن الطبية بتركيا، هي بيلكنت وأتليك في أنقرة، وباشاك شهير في إسطنبول، والمدينة الطبية في غوزتيه، ومدينة أضنة، إضافة إلى المدن الطبية في قونيا وأسبارطا ومانيسا، معتبراً أن كل مدينة طبية تمتاز بخصائص، وإن كان الجامع بينها هو جودة الخدمة الصحية، وتلبية جميع الاحتياجات للحالات النادرة والمعقدة، بما فيها البحوث والصناعات الدوائية، فضلاً عن ما تملكه بلاده من مصادر طبيعية، مثل المياه المعدنية والكبريتية والطبيعة الاستشفائية، ما يؤهلها لتكون قبلة عالمية للسياحة الطبية، وتحقق كما هو مخطط 4 مليارات دولار خلال العام المقبل.
وقلما يشار خلال الحديث عن المدن الطبية بتركيا، إلى ما أسماه الطبيب محمد الجزار "آفة الطب"، وهي دخول غير المتخصصين إلى القطاع، وليس المقصود فقط المستثمرين الذين "يستخدمون الأطباء والمنشآت لحسابهم، بل أيضاً ما يسمى "المستشار الصحي"، وهي مكاتب وشركات يديرها أشخاص غير متخصصين في الطب، ويقومون بدور الترويج والإرشاد، من خلال التعاقد مع المنشآت الطبية، وهؤلاء عادة ما يرشدون المرضى إلى الجهة التي تحقق لهم العائد الأكبر، وليس إلى الوجهة الأفضل للمريض.
ويوضح الجزار خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، ضرورة التشديد والرقابة، وإبعاد غير المتخصصين عن قطاع له علاقة مباشرة بحياة الإنسان، ويلفت إلى التطور الهائل الذي وصلت إليه تركيا، فرغم أن تكنولوجيا عالم الطب متاحة للجميع، فإن تركيا فضلاً عن استيراد وتصنيع أحدث التقنيات، اتجهت نحو التحوّل لمركز عالمي للسياحة العلاجية، ووفق بيانات وزارة الصحة، يوجد 5400 سيارة إسعاف، إضافة إلى 19 مروحية للخدمة الطبية، ويعمل بالقطاع الطبي نحو مليون ونصف مليون عامل، وترتفع ميزانية وزارة الصحة سنوياً لتحقيق الأهداف.
وفي حين تتفاوت أرقام أعداد زوّار تركيا بغرض العلاج، وبالتالي تتباين عائدات السياحة العلاجية، إلا أن ثمة إجماعاً على أنها باتت مركز الجذب العالمي في زراعة الشعر، وعلاج الأسنان، والجراحات التجميلية، لأن التكاليف فيها تصل إلى نصف التكلفة في الولايات المتحدة، وأقل بنسبة 30 في المائة عن الدول الأوروبية.
وتذهب توقعات رئيس جمعية السياحة العلاجية في تركيا، ثروت ترزيلار، إلى استقطاب مليوني سائح بقصد العلاج خلال العام، وتحقيق عائدات تقترب من 4 مليارات دولار، مضيفاً خلال بيان نشرته الجمعية أخيراً، أن حصة تركيا في قطاع السياحة العلاجية تزداد يوماً بعد يوم، بعد أن باتت واحدة من أبرز وجهات السياحة العلاجية في العالم.