تحوّلت عائلات جزائرية الى إنتاج الطعام والوجبات والحلويات، وتوصيلها الى أشخاص يطلبونها في بيوت وورش ومحلات تجارية، بالتزامن مع رواج خدمة توصيل الطعام في السنوات الأخيرة، والتي وصلت متأخرة إلى البلاد مقارنة بدول عربية أخرى بسبب اعتبارات اجتماعية وتقنية، ما يؤكد بحسب الباحثين وجود تحوّلات عميقة في الأسر الجزائرية وعلاقتها بالأكل.
تقول الحاجة فريدة حشاد، وهي ربة بيت من مدينة تيبازة، لـ"العربي الجديد": "أجهّز مأكولات وأعرضها على صفحات موقع فيسبوك. وبت أتلقى طلبات كثيرة من موظفين يعملون في الإدارات العامة وسكان في بيوت يوجد بعضهم في مدن، ويحنون كثيراً إلى المأكولات التقليدية الصحية مع تزايد النفور من مطاعم الأكل السريع بسبب مخاطره الصحية المرتبطة بمكوناته السيئة".
وساهم إنشاء تطبيقات جديدة تهتم بمجال توصيل الأكل في زيادة الإقبال على هذه الخدمة، مثل تطبيق "جوميا فوود" و"ياسر فوود" و"فوود بيبر" التي تسمح للمستهلكين بطلب أي وجبات طعام يريدونها باستخدام هواتفهم الخليوية من داخل بيوتهم أو أماكن عملهم فتصل إليهم خلال فترة قصيرة. أما تطبيق "ماي ماكلة" فيسمح للزبائن بتناول مأكولات عصرية وتقليدية مطلوبة مثل الرشتة والشخشوخة في المنازل.
وشجعت نجاحات حققتها نساء خضن تجربة تحضير الأطعمة الجاهزة ربات بيوت على العمل في المجال، وإنشاء صفحات وتطبيقات خاصة بخدماتهن وأطباقهن على مواقع التواصل الاجتماعي كي تشكل حلقة ربط بينهن وبين الزبائن. وعزز تنفيذ الفكرة ظهور خدمة توصيل طلبات الأكل إلى البيوت في الجزائر، والتي باتت تلقى إقبالاً كبيراً من المواطنين الذين استحسنوا المكوث في البيت ووصول ما يشتهون من مأكولات إليهم من دون تكليف أنفسهم عناء التنقل إلى المطاعم.
واقتصرت الفكرة في البداية على أطباق البيتزا التي يوصلها شبان إلى البيوت ومقار العمل باستخدام دراجات نارية، ثم تنوعت وجبات الأكل المطلوبة مع مرور الوقت، وأصبحت الأطباق التقليدية وتلك للشواء والحلويات والمعجنات ضمن قائمة المأكولات المطلوبة، ووجدت المطاعم نفسها مرغمة على الإفادة من الظاهرة التي تشكل بدائل جديدة تتماشى مع التطورات التي عرفها المجتمع الجزائري، واغتنام فرصة الاستعمال الكبير لتكنولوجيات الإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي في تسويق الوجبات.
يقول أوقاسي مراد، وهو صاحب مطعم في مدينة شرشال غربي الجزائر العاصمة لـ"العربي الجديد": "تجاوزت خبرتي في مجال الطعام 15 سنة، وكان يجب أن أجد أسلوب عمل جديداً، بعدما تراجع عدد زبائن المطعم، ففكرت في إنشاء هذه الخدمة، ونشرنا قائمة الطعام الذي نحضره يومياً على صفحتنا في فيسبوك وإنستغرام وكانت الاستجابة ضعيفة في البداية، ثم زادت الطلبات مع مرور الأيام، وأنشأنا شبكة ضمت زبائن جدداً، وتعدمنا إعداد مأكولات تقليدية تحتاجها العائلات في المناسبات، مثل الكسكسي والشربة والبغرير التي باتت العائلات تطلبها من دون أن تكلّف نفسها عناء تحضيرها الذي قد يتطلب بعضه تعاون النساء".
وتؤكد فكرة إعداد الطعام في البيت وبيعه ضمن أنشطة الأسرة المنتجة، أو طلب وجبات من الخارج، وجود تحولات في الأسرة الجزائرية، لأن تجهيز المأكولات في البيوت وبيعها لم يكن منتشراً، فالجزائري الذي لا يجد طعاماً في بيته اعتاد أن يطلب ذلك من جيرانه وأقاربه الذين يسكنون معه أو قربه، علماً أنّ فكرة بيع الطعام كانت أمراً معيباً بالنسبة إلى الأسر الجزائرية، لأنّ الطعام يُتصدق به ويُهدى، ولا يباع.
وتعتبر الباحثة في علم الاجتماع العائلي الدكتورة صافية هوايلية، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "العائلة الجزائرية معروفة منذ القدم بتنفيذ أعمال وحرف منزلية مثل الألبسة المصنوعة من صوف سواء باليد أو بآلة النسج مقابل الحصول على مبالغ مالية. ولأن هذه حرف أصبحت قليلة وفي طريقها إلى الاندثار، توجهت نساء إلى صنع حلويات في البيت وبيعها في مرحلة أولى، ثم تطور ذلك الى صنع الكسكسي والوجبات التقليدية في مرحلة ثانية، تماشياً مع طلبات الزبائن".
وفي الفترة الأخيرة، أصبحت فكرة توصيل الأغراض أو طلب مأكولات خدمة ضرورية تستفيد منها أيضاً المطاعم من أجل زيادة أرباحها، وكذلك عائلات تقدم هذه خدمة لزيادة دخلها، تضيف: "أصبحت هذه الخدمة ضرورية مع التغيّر الاجتماعي الذي طرأ، واعتبار المأكولات السريعة سيئة لصحة الناس. أيضاً لا تستطيع المرأة العاملة التوفيق بين وظيفتها والبيت أحياناً، خصوصاً في حال قدوم ضيوف، كما أن الخدمة هي أحد أشكال الرفاهية بالنسبة إلى بعض الناس".
وما عزز هذه التحوّلات تزايد الارتباطات المهنية للمرأة الجزائرية في السنوات الأخيرة، ما يجعلها تعود مرهقة من العمل، خاصة في مجالات تعرف ضغطاً كبيراً، ما يدفع الأسرة الى طلب وجبات مباشرة من المطاعم التي توفر خدمة التوصيل.
ومع نجاح الخدمة وانتشارها اللافت ظهرت مخاوف من "المطاعم الوهمية"، بحسب وصف هيئات الدفاع عن المستهلك، التي "لا تحترم المعايير الصحية وتشكل مصدراً لإصابات التسمم الغذائي".
ويقول الأمين العام للمنظمة الجزائرية لحماية المستهلك حمزة بلعباس لـ"العربي الجديد": "يجب أن يخضع تحضير المأكولات الموجهة للاستهلاك التجاري لشروط صارمة على صعيد تدابير النظافة والحفظ والتبريد وتعقيم أجهزة الطبخ لتجنب حالات التسمم التي قد تؤدي إلى كارثة، فقد ينقل طباخ مريض عدوى إلى آخرين، والمشكلات الحقيقية الكبرى لا تتعلق بعائلات تزاول هذا النشاط للخروج من البطالة وتوفير المصاريف، بل في تحضير بعض المطاعم الوهمية مأكولات داخل أقبية لعمارات ومنازل لا تتوفر فيها أدنى شروط النظافة والصحة، وتكون سرية في كثير من الأحيان. وفي مواجهة هذا الوضع يضطر المستهلك إلى رفع شكوى ضد مجهول.