أسبابٌ عدّة أجبرت غالبية أهالي مدينة الموصل، الذين ما زالوا موجودين فيها، على عدم مغادرتها، على الرغم من القوانين التي يفرضها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مذ أحكم سيطرته عليها قبل أشهر. لا خيار أمامهم سوى البقاء فيها والعيش في ظل قوانين التنظيم المتشددة، من دون أن تتوفر لهم فرص للهرب من المدينة التي تعيش أحلك أيامها.
تُعاني مدينة الموصل من أزمة أمنية وإنسانية حادة منذ سيطرة "داعش" عليها في العاشر من شهر يونيو/ حزيران الماضي، في ظل سعيه إلى فرض أفكاره وقوانينه المتشددة بالقوة على المدينة وأهلها. فجّر وأحرق الكثير من المراقد الدينية والجوامع والكنائس والمكتبات والمواقع الأثرية والتاريخية بذريعة مخالفتها الشريعة الإسلامية، علماً أنه لا يهتم بتوفير الخدمات الحياتية الضرورية لأهالي الموصل التي صارت شبه غائبة، ناهيك عن الحصار الحكومي.
قبلَ الغد
في السياق، يقولُ المواطن أبو أيوب شيخ، وهو ثمانيني، إنه لم يغادر وعائلته المؤلّفة من عشرة أفراد الموصل، بسبب فقر حالهم، فضلاً عن عجزه ومرضه الذي يمنعه من تحمّل مشقة السفر. يضيف: "أتمنّى مغادرة الموصل اليوم قبل الغد. الأمن مفقود والقصف الجوي لطائرات التحالف لا يتوقف، وكثيراً ما يؤدي إلى خسائر في أرواح الأبرياء. لا توجد خدمات. انقطعت الكهرباء عن المدينة منذ أشهر، ما أثر على بعض المشاريع والمستشفيات والمعامل وغيرها. أما المياه، فبالكاد تصل إلى المنازل، ما دفع السكان إلى حفر الآبار. كذلك، توقفت شبكة الاتصالات نهائياً، ووصلت نسبة البطالة إلى 80%، وخصوصاً بين الشباب".
يتابع أن المأساة لا تنتهي هنا. هناك أيضاً قوانين "داعش" المتشددة التي أدت إلى تعطيل الحياة في المدنية. حتى أن بعض التلاميذ والطلاب توقفوا عن الذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم. يشرح أن عائلته أيضاً لم تتمكن من الهرب "بسبب الفقر. يعيلنا ابني البكر، وهو عامل في ورشة بناء. في الوقت الحالي، فإن عمله شبه متوقف بسبب الظروف التي تمر بها المدينة". يلفت إلى أن "عائلات كثيرة، حالها كحالنا، اضطرت إلى البقاء، بينهم أحد أقاربي، لأن ابنه معوّق وزوجته مريضة، وبالتالي لا يمكنهم تحمّل عناء السفر".
من جهة أخرى، يُبدي مواطنون آخرون رغبتهم في مغادرة المدينة، خوفاً من بطش التنظيم المتطرّف الذي يقتل كل من يعارض أوامره، عدا عن الخوف من انتقام القوات الحكومية أو المليشيات التي تسعى إلى تحرير المدينة من "داعش". ويقول المواطن فارس سالم إن "التنظيم يمنع سفر المواطنين إلا بعد الحصول على موافقة من قبل محكمته الشرعية، بالإضافة إلى وجود شخص ضامن، وسند عقاري، على أن يحدّد المدة بناءً على السبب ودرجة اقتناع المحكمة به (علاج أو استلام راتب أو غير ذلك)". يتابع أن التنظيم "يسعى للاستفادة من الأهالي كدروع بشرية في حال قدوم قوات لتحرير الموصل"، موضحاً أن "بعض الأهالي يفضّلون البقاء في المدينة خوفاً من مصادرة داعش منازلهم". ويلفت إلى أن غالبية العائلات قد لا تتمكن من السفر في الوقت الحالي بسبب ارتفاع الكلفة. فأجرة المسافر بالسيارة إلى بغداد، المنفذ الوحيد أمام المسافرين بعد إغلاق جميع الطرقات الأخرى، تراوح ما بين 800 ألف إلى مليون دينار للشخص الواحد، في حال قبِل السائق بالمجازفة والقيادة نحو 40 ساعة ومواجهة الأخطار الكثيرة".
تحرير
وفي الوقت الذي صارت فيه مغادرة الموصل والخلاص من تشدد "داعش" بمثابة حلم صعب التحقيق لدى غالبية الأهالي الموجودين في المدينة، يُطالب كثير من المواطنين الحكومة المركزية وإقليم كردستان والمجتمع الدولي بوضع خطط محكمة لتحرير الموصل، وتجنيب المدنيين تأثير العمليات العسكرية، وتقليل الخسائر البشرية، وإيجاد طرق بديلة تسهّل إيصال المساعدات إليهم.
وتقول المواطنة أم هيفاء إن العديد من العائلات فضّلت البقاء في منازلها، وخصوصاً بعد عودة بعض العائلات النازحة إلى الموصل من الإقليم بسبب نفاد مدخراتها، وصعوبة العيش في المخيمات التي تفتقر للخدمات، وخصوصاً تلك الصحية. كما أن بعض العائلات تخشى فقدان مصدر رزقها الوحيد الذي تعتاش منه في الموصل، من خلال مزاولة بعض المهن المحلية، على الرغم من تراجع عملها بشكل كبير.
وفي الآونة الأخيرة، نادراً ما يفكر أهالي الموصل بمغادرة مدينتهم بعد تقدم قوات البشمركة في مناطق سنجار، وقطعها الطريق الوحيد الذي تسلكه سيارات الأجرة من الموصل إلى بغداد مروراً بسنجار والجزيرة والقائم والرمادي وكربلاء، والتي تستغرق الرحلة بينهما أكثر من 40 ساعة، يواجه خلالها المسافرون مخاطر كثيرة، قد أودت بحياة البعض، بحسب سائق سيارة الأجرة أبو هاني.
يتابع أن غالبية سيارات الأجرة التي تنقل المواطنين والمسافرين من الموصل إلى كركوك وبغداد توقفت عن العمل، بعد إغلاق الطريقين في وجه المسافرين منذ أسابيع، فضلاً عن "الخطورة الكبيرة التي تواجهنا أثناء الطريق". ويلفت إلى تعرض عدد من السيارات إلى إطلاق نار من قبل مجهولين، أودى بحياة بعض المواطنين. وقبل أيام، تعرضت إحدى السيارات لإطلاق نار كثيف، ما أدى إلى مقتل السائق واثنين من الركاب قرب قضاء سنجار، فيما قتلت طبيبة نسائية معروفة في الموصل مع أفراد عائلتها نتيجة قصف طيران التحالف الدولي الذي أصاب سيارة الأجرة التي تقلهم على الطريق الخارجي، غرب الموصل، باتجاه العاصمة بغداد. وأحياناً "نضطر إلى المبيت في العراء أو داخل السيارة أو داخل أحد الجوامع القريبة، بسبب خطورة وصعوبة السير خلال الليل"، على حد قوله.
من جهتها، لم تبدِ الحكومة المركزية في بغداد أي استجابة للمناشدات المتكررة للأهالي والمسؤولين في نينوى، بهدف توفير حصص المحافظة في عدد من القطاعات، منها الموازنة والكهرباء والمشتقات النفطية وغيرها، ويعتبرون أن الأمر أشبه بعقوبة تدفعها المحافظة جراء احتلالها من قبل "داعش". وطالبوا بغداد وأربيل والمجتمع الدولي باتخاذ التدابير لإنقاذها من التدهور الأمني والخدماتي الذي تعانيه منذ أشهر، والذي قد ينذر بكوارث إنسانية وبيئية، وانتشار الأوبئة والأمراض في حال لم تسارع الحكومة إلى وضع حلول مناسبة لتأمين الخدمات للأهالي، وفي مقدمتها الكهرباء.