البوسنة... "جسور الثقة" تحارب الانفصال العرقي بالمدارس

06 ديسمبر 2017
تعمل المبادرة من خلال أنشطة للتعاون بين العرقيات(العربي الجديد)
+ الخط -
"قبل اندلاع الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك كان النظام التعليمي يتميز بدرجة كبيرة من الجودة"، هكذا بدأت ديجانا ميلجانوفيك، القائمة على مشروع "جسور الثقة والتعاون" في البوسنة والهرسك منذ 21 عاماً، حديثها لـ"العربي الجديد" شارحة الظروف السياسية والمجتمعية التي أحاطت بالمبادرة.

ثم استطردت: إلا أن الحرب التي امتدت من عام 1992 إلى 1995 أثرت على كل جوانب العملية التعليمية، فقد شهدت النظم القديمة توقفا كاملا لأنها تأثرت بالتقسيمات الإدارية الجديدة، ولا سيما بما نص عليه الدستور الجديد من تبعية التعليم للكيانات الجديدة ، ومثال على تلك الكيانات الـ "كنتونات" التي انقسمت من خلالها فيدرالية البوسنة والهرسك، فقد تقرر في اتفاقية دانتون للسلام تقسيم الدولة إلى 14 حكومة يتبعها 120 وزيراً وأكثر من 600 ممثل برلماني لشعب لا يزيد على ثلاثة ملايين ونصف المليون. كان لهذا الأمر تأثيران كبيران على القطاع التعليمي، أولهما أن نصف ميزانية الدولة تبتلعها رواتب كل هؤلاء الموظفين مما له أبعد الأثر على ميزانيات تطوير التعليم، وثانيهما ووفق اتفاقية دانتون للسلام لم يعد للحكومة المركزية للبوسنة والهرسك وزارة للتعليم بل آلت المسؤوليات إلى ثلاثة كيانات منفصلة، الحكومة الفيدرالية للبوسنة والهرسك وتتبعها عشرة كنتونات، لكل منها صلاحيات غير محدودة على القطاع، جمهورية Srpska بالإضافة إلى District Brčko ولها سياستها التعليمية الخاصة بها.


خيانة الصمت
وفي ظل هذه الأجواء من التشرذم ظهر ما يعرف بنظام "مدرستان تحت سقف واحد"، وهي عملية تشير بجلاء إلى الانفصالية الواضحة في المجتمع، وبالرغم من المواثيق والقوانين المختلفة إلا أن الممارسة الخاصة بفصل الطلبة والنظم التعليمية وفق العرقيات راسخة وسط التجمعات السكانية، التي تعيش فيها عرقية جنباً إلى جنب مع عرقية أخرى.

أما عن الأهداف من المباردة، فتقول ديجانا، جاءت مبادرة "جسور الثقة والتعاون" لمؤسسة Genesis (والتي تعني بالعربية "الأصالة") والتي تم تمويلها في مراحلها الأولى من قبل جهات ألمانية لدعم التعليم في البوسنة، لمواجهة الانفصال العرقي وإنهاء ما يعرف في مجتمع البوسنة بظاهرة "خيانة الصمت" وهي الممارسات اليومية بين أفراد العرقيات المختلفة والتي تمتنع عن التعاون والتشارك أو إقامة العلاقات، أو حتى الحوار مع أفراد العرقيات الأخرى. وهي ظاهرة تدل بوضوح على عمق الكراهية وعدم التقبل المنتشرة في المجتمع البوسني.

وفي إجابتها على كيفية مجابهة مثل هذه الأجواء من خلال التعليم، تقول ديجانا: تعمل المبادرة من خلال أنشطة تعليمية تهدف إلى بناء العلاقات المشتركة والتعاون بين العرقيات المختلفة في منطقة وسط البوسنة، وإلى خلق بيئة من التفاهم وتقبل الآخر وبناء أجواء سلمية للتعايش المشترك بين العرقيات المختلفة. ركزت المبادرة على ثماني مدارس، كل واحدة تضم تحت سقفها مدرستين (مدرسة للعرقية البوسنية المسلمة والأخرى للعرقية الكرواتية المسيحية) لا يتعامل طلبتها ومعلموها مع القائمين على المدرسة الأخرى، وكأنهم كيانان منفصلان لا يربطهما أي رابط، ففي الدراسة التي قامت بها المؤسسة في عام 2009 ظهر بوضوح الانفصال العرقي الموجود في منطقة وسط البوسنة بين هاتين العرقيتين، وظهر أن الخوف على ضياع الهوية مسيطر ومتوغل في المجتمع بحيث يعيق أي تعاون أو رغبة في التعايش المشترك والحوار، وأن أولياء الأمور يمارسون "خيانة الصمت" من خلال منع الأبناء من التحاور أو إقامة العلاقات مع أي من أبناء العرقية الأخرى، مما أدى إلى أن يمتد هذا الخوف إلى المدارس وأصبح المعلمون أصحاب أقل تعامل واختلاط مع الآخر هم القدوة في المجتمع البوسني.

الأنشطة التعليمية
كانت وسيلة المبادرة هي خلق فرص وأنشطة للتعاون المشترك مثل ورش العمل التفاعلية والأنشطة الترفيهية التي يشارك فيها أبناء العرقيتين جنباً إلى جنب، وتميزت المبادرة بما يعرف بالعروض المسرحية التفاعلية وكذلك ورش العمل التي تركز على موضوعات مثل مهارات التواصل، حل النزاعات والعمل المشترك، وقد كان دوماً التركيز على الطلبة من سن 12 – 15 عاما.

ورداً على سؤال "العربي الجديد" في ما يتعلق بنجاح المبادرة، خاصة وأنه قد تم ترشيحها لجائزة وايز في الدورة قبل الماضية، تقول ديجانا إن الالتفاف المجتمعي والاهتمام بالمبادرة يرجع إلى الأفكار المبتكرة التي تضمنتها الأنشطة التعليمية التي كنا نطبقها في المدراس، ومن أهمها ورش العمل التعليمية القائمة على فكرة التعلم المشترك ومسرح العرائس والدراما التعليمية وأنشطة إعداد الأفلام القصيرة، التي لا تتعدى الدقيقة الواحدة، وكل هذا ساعد على لفت الانتباه إلى المبادرة والمشاركة والتفاعل الكبيرين من قبل الفئات المستهدفة الثلاث: الطلبة- أولياء الأمور- المعلمين.

الإنجازات
ثم استطردت ديجانا في حديثها مع "العربي الجديد" قائلة: نحن ندرك أن التأثير يقع على مرحلتين، المرحلة المباشرة وهي مخاطبة وإشراك المستهدفين بصورة مباشرة في الأنشطة، ولكن هناك التأثير غير المباشر (طويل الأمد) والذي يتم من خلال تأثير المعلمين المشاركين في الأنشطة على جموع الطلبة الآخرين، الذين لم يشاركوا في الأنشطة من خلال تغير أنماط التفكير والسلوك لديهم وبناء جسور من الثقة مع العرقيات الأخرى.

بالنسبة للمجموعة الأولى، قمنا بإشراك 360 طالباً في ورش العمل التفاعلية المشتركة، بالإضافة إلى 1120 ولي أمر و96 معلماً، كما أقمنا 30 عرضا لمسرح العرائس حضره 1800 طالب من سن 6-11 و30 عرضاً للدراما التعليمية للطلبة من سن 12-14، كما كان هناك تدريب لـ 80 طالباً على تصميم الأفلام القصيرة واشترك منهم 40 طالباً في مهرجان الأفلام القصيرة للشباب.

أما الذين يتم التأثير عليهم بصورة غير مباشرة، فهم 3000 طالب يتم تدريسهم من خلال الـ 96 معلماً المشاركين في الورش الخاصة بتنمية مهارات الحوار وتقبل الآخر.
تضيف ديجانا: "نستعين بالجهات الدولية المستقلة للقيام بمهمة تقييم الأثر، مثل اليونيسيف التي قامت بتقييم عملنا خلال 2012-2013 وأظهرت التقييمات تحسناً في مهارات التواصل بين الفئات المستهدفة ومستوى أعلى في المعرفة الخاصة بمهارات حل النزاعات، والتعامل مع العنف، أما على مستوى السلوكيات فكان هناك تطور إيجابي في تنمية روح المبادرة لوقف العنف في إطار البيئة المحيطة".