حرب الإذلال وتحطيم المعنويات

16 ابريل 2017
أسرى فلسطينيون في سجن مجدو (مناحيم كاهانا/فرانس برس)
+ الخط -
تمثل أقبية التحقيق المرحلة الأولى في القتل النفسي والمعنوي والتي يخضع فيها الأسير لأسابيع أو أشهر لأساليب نفسية وجسدية لا يتسع المجال للخوض فيها تتجاوز انتزاع المعلومات والكشف عن النشاط المقاوم، وخلالها يسعى المحققون إلى ترسيخ قناعة لدى المقاوم بأن صاحب الكلمة العليا في المحاكم العسكرية هو جهاز الشاباك (الأمن الإسرائيلي الداخلي)، وهو الذي يصدر الحكم بناءً على قناعته وتوجيهاته السرية للمحاكم العسكرية وللقضاة الصوريين فيها، وأنه سيسعى (الشاباك) لأن لا يغادر السجون إلا على فراش الموت أو قعيد المرض، خاصة قيادات المقاومة أو من أصحاب الفعل المقاوم.

ويمكن تصنيف الإجراءات وفقاً للفئة المستهدفة وهي الصف القيادي والأسرى الآخرون.

أولاً: فئة قيادات العمل المقاوم
أعد جهاز الشاباك وإدارة السجون برنامجاً ممنهجاً عكف على صياغته خبراء في علم النفس والطب والقانون لقيادات العمل المقاوم لمن عجزت آلة القتل عن تصفيتهم أو اقتضت الضرورة إبقاءهم على قيد الحياة للحصول على معلومات أمنية ذات أولوية، ويتمثل هذا البرنامج في العزل الانفرادي وإبقاء الأسير في حالة عدم استقرار وانتظار المفاجآت في أي لحظة.

* العزل الانفرادي: يتحكم الشاباك الإسرائيلي في ملف العزل الانفرادي بشكل كامل  ويهدف بشكل واضح إلى وضع الأسير في ظروف تبقيه على قيد الحياة بحدها الأدنى مع رزمة من الأمراض النفسية والعضوية والمعنوية والتي يصعب الفكاك عنها أو علاجها، بما يصب في خدمة الهدف الأسمى وهو الاغتيال النفسي، وتحطيم الإرادة وكسر العزيمة، وغالباً ما يتم نقل الأسير إلى زنزانة صغيرة يطلق عليها "القبر" أو "تابوت الأموات" وهي تقاس بالسنتيمترات طولاً وعرضاً، سيئة التهوية مع رطوبة عالية، ولا يرى الأسير من الكائنات الحية سوى بعض الحشرات والسجان، وهو منقطع عن العالم بكل تأكيد، ويخرج من هذا القبر ساعة واحدة فقط كل يوم إلى القفص أو ما يسمى "الفورة" ، وربما للطبيب والمحامي في حالات نادرة، وهو مقيد بالسلاسل الحديدية.

وبالمجمل فإن ظروف كهذه، هي وصفة أكيدة لطيف واسع من الأمراض النفسية والعضوية نظراً لأن الأسير قد يمضي مدة تصل إلى عشر سنوات كما حصل مع الأسرى عبد الناصر عيسى، وحسن سلامة، وإبراهيم حامد، وعبد الله البرغوثي، وشكري الخواجة وغيرهم الكثير، ويقبع الآن في العزل الانفرادي حوالي 16 أسيراً (2 إبريل/نيسان 2017).

* النقل التعسفي: هذا النوع خاص أكثر بقيادة الحركة الأسيرة، وبالتحديد في أجواء تحركات داخل السجون في سياق التخطيط لبرامج نضالية ضد مصلحة السجون كالإضراب عن الطعام، ويهدف النقل إلى إرباك قيادة الحركة الأسيرة وتشتيت جهودها والتأثير على إرادتها عبر عزلها عن الجسم الاعتقالي وقطع التواصل مع الأسرى، وعزلهم بشكل فردي أو جماعي في سجون أو أقسام خاصة كما هو الحال في سجن هداريم شمال فلسطين المحتلة.



ثانياً: الأسرى بشكل عام
دأبت إدارة السجون، منذ تشكل الحركة الأسيرة وتضخم أعداد المعتقلين بعد عام 1967، على السير وفق نهج ثابت وسياسة راسخة تتمثل في توفير كافة الأسباب بحيث تبقي الأسير في شعور دائم بأنه قيد الاعتقال، ويعيش حياة الأسر كل لحظة، وأنه ليس أسير الجسد فقط، بل كذلك روحه وفكره وعالمه الافتراضي الذي يوجده لنفسه في السجن، فعلى الأسير أن يقف كل يوم ثلاث مرات لضابط العدد "لإحصاء عددهم" ويقبل ما تقدمه إدارة السجن من طعام أو متطلبات الحياة الأساسية، ويعيش حياته اليومية مع بضعة أسرى آخرين في غرف تفرض إحساسا بأنه في بناية تحت الأرض، ويخضع لإجراءات أمنية معقدة في الدخول والخروج من أقسام الاعتقال سواء للزيارة أو المحكمة أو المحامي، أو النقل التعسفي من سجن لآخر أو قبول العلاج الوهمي (المسكنات والماء) في حال إصابته بالمرض.

ومن أهم سياسات إدارة السجون في تكريس نفسية الاعتقال التي تستهدف تحطيم إرادة الأسرى وقتل الروح الوطنية:

* محاولة العزل الكامل عن العالم الخارجي، ليس جسدياً فقط وإنما معلوماتياً ومعرفياً، حيث تحرم الأسير من التواصل مع العالم الخارجي بأي وسيلة، ولا يرى العالم إلا من خلال عدة قنوات فضائية يتم تحديدها وفقاً لرؤية ورغبة إدارة السجون، وتمنع عنه الكتب والمجلات، باستثناء الكتب التي عفا عليها الزمن شكلاً ومضموناً في مكتبة القسم، أما بعض الصحف المحدودة جداً التي تصل كل أسبوع فهي أعداد قديمة.

* سياسة الإهمال الطبي، فقبل أن يصل المريض إلى مستشفى سجن الرملة سيئ السمعة إذا حالفه الحظ، عليه أن يمر بإجراءات قد تستمر إلى أشهر طويلة حتى يعرض على طبيب متخصص، والسياسة الثابتة لدى إدارة السجن هي إبقاء الأسير على قيد الحياة ، بمعنى التدخل فقط عندما يهدد المرض حياة الأسير، فالأمراض المزمنة أو التي تحتاج لتدخل جراحي ليست من اهتمامات الطبيب إلا في حالات معينة.

* إشاعة أجواء من اللااستقرار وإبقاء الأسير في حالة ترقب من المفاجآت والتوجس من المستقبل، فكل أسير عرضة لقرار من إدارة السجون بالنقل من سجن إلى آخر، أو عبر التفتيش المفاجئ، والاقتحامات الليلية للأقسام والغرف، والقيام بالتفتيش بحجج أمنية مع ما يصاحب ذلك من ضغوط نفسية وجسدية.

رغم أن شروط الحياة بحدها الأدنى إلا أن إدارة السجون وبدون مقدمات تقوم في بعض الأحيان بإلغاء بعضها جزئياً أو كلياً، من قبيل مصادرة نوع من الأمتعة الشخصية، أو تقليص مدة الخروج للقفص "الفورة"، أو إلغاء قناة فضائية اعتاد الأسرى متابعتها.

* إشراك عائلة الأسير في المعاناة لترسيخ قناعة بأن المعاناة وآلام الأسر لا تقتصر على الأسير نفسه بل تلحق بعائلته من خلال سلسلة طويلة من الإجراءات خلال الزيارات الممزوجة بالمعاناة ومحاولات الإذلال، وعبر الغرامات المبالغ فيها التي تفرض على الأسرى لأبسط الأسباب ويضطر الأهالي إلى دفعها من قوت أبنائهم، أو الغرامات الخيالية التي أصبحت تصاحب قرار الحكم بالحبس في المحاكم العسكرية والتي تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات.

* المعاناة النفسية والجسدية الهائلة المصاحبة لرحلة التنقل من سجن إلى آخر أو إلى المستشفى أو المحكمة، عبر الساعات الطويلة التي يقضيها الأسير في غرف الانتظار وهو مقيد، والتفتيش الروتيني عند كل محطة نزول وصعود، ومن ضمن ذلك التفتيش العاري الذي يمس إنسانية وكرامة الإنسان، حتى يفضل الأسير البقاء في السجن على الذهاب للمستشفى أو للمحكمة، ولكنه غير مخير في معظم الأحيان.

* استغلال إدارة السجن لأي أحداث أو مستجدات أو خطوات تصعيدية من الأسرى في إطار الدفاع عن مكتسباتهم أو الاحتجاج بشكل فردي أو جماعي على سلوك عدواني معنوي أو جسدي والمبادرة بحملة لساعات أو أيام (القمعة)، يتم فيها ممارسة كل أشكال التنكيل والتعذيب والإيذاء النفسي يجتهد السجانون على نقش تفاصيلها الأليمة في ذاكرة الأسرى حتى آخر يوم في حياتهم.

بالإضافة إلى السياسات السالفة الذكر فإن للأسرى الإداريين نوعاً خاصاً من المعاناة النفسية، إذ يتم اعتقالهم دون توجيه تهم أو تقديمهم للمحاكمة، الملف السري الذي يعده الشاباك حصراً هو الفيصل في قرار الاعتقال واستمراره، وهذا النوع يتعلق بقرارات التمديد المتتالية من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر أو أقل وهكذا، وفي بعض الأحيان يتم الإمعان في الحرب النفسية من خلال التمديد في آخر لحظات أو حتى أمام السجن بعدما يتنسم الأسير هواء الحرية لدقائق.

ولكن وبالمجمل ورغم إجراءات إدارة السجون وجهاز الشاباك لتحويل السجون إلى جحيم وإلى مكان معزول عن العالم، بإجراءات ممنهجة تهدف إلى قتل الروح الوطنية وتحطيم إرادة وعزيمة الأسرى، إلا أن واقع الأسرى المحررين لا ينسجم على الإطلاق مع أهداف هذا المخطط، فقد أصبح قطاع عريض من الأسرى المحررين أكثر تصميماً وإصراراً على السير على ذات النهج ، وأعمق إيماناً بقضيتهم الوطنية، وانتقل بعضهم من الزنازين وغياهب السجون إلى قيادة فصائل المقاومة، وتبوأ بعضهم مراكز متقدمة في المؤسسات الرسمية والأكاديمية والحقوقية.

(باحث فلسطيني)


المساهمون