لأجل المسلمين.. ولأجل فرنسا

لأجل المسلمين.. ولأجل فرنسا

11 مايو 2015
(لاديكوفارت، باريس، 2015)
+ الخط -
تعيش فرنسا جدلاً واسعاً حول الإسلام خلق أرضية سياسية واجتماعية متقبلة للتمييز، الذي يتعرض له المسلمون، الذين هم جزء من المجتمع الفرنسي. ويعتبر كتاب الصحافي، إدوي بلينال، مدير جريدة "لوموند" سابقاً والمدير الحالي لموقع "ميديا بارت" الاستقصائي (الذي اشتهر بتحقيقاته الصحافية حول العديد من الفضائح السياسية والمالية في فرنسا، في السنوات الأخيرة، وعلى أساس تحقيقاته فتح القضاء الفرنسي قضايا بعضها في حق الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي)، حالة استثنائية في المشهد الإعلامي الفرنسي. فهو يدافع عن مسلمي فرنسا، موضحاً أن اليمين المتطرف ليس وحده من يستهدفهم، بل الحكومات المتعاقبة أيضاً، مُرَكِّزاً على حكومتي ساركوزي.

يقول بلينال في تمهيده لكتابه هذا، الذي صدرت طبعته الأولى في سبتمبر/أيلول 2014، (على شكل "رسالة إلى فرنسا" التي كتبها عقب الهجوم على "شارلي إيبدو") إن المسيحيين واليهود والمسلمين والملحدين ... الذين قتلهم الإرهابيون الثلاثة في الاعتداء على جريدة "شارلي إيبدو" هم صورة فرنسا: متنوعة ومتعددة، متعددة الثقافات والديانات.

أطروحة الكتاب المركزية، والتي ناقشها بلينال بحجج قوية، هي أن وضع المسلمين اليوم، في فرنسا، يشبه وضع اليهود منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية. لذا تراه يطلق صيحة فزع وصرخة قوية للتحذير مما قد تؤول إليه الأمور مستقبلاً، إن استمر واستفحل الخطاب العنصري ضد المسلمين وغيرهم من الأقليات (غجر، سود...) في فرنسا. وما يحذر منه ليس فقط أفكار اليمين المتطرف وانتشار الأفكار العنصرية في المجتمع، بل أيضاً مخاطر التمييز، الذي تمارسه الدولة.

ينطلق بلينال في طرحه الراهن مستحضراً التاريخ مراراً وتكراراً، من جملة للكاتب الفرنسي إميل زولا (1840-1902) وهي أن الإفراط في إظهار فزاعة للشعب تقود في النهاية إلى خلق وحش، وردت في مقاله الشهير "لأجل اليهود" نُشر في جريدة "لوفيغارو" في 16 مايو/أيار 1896، أي قبل سنتين من مقاله الأشهر "إني أتهم ؟" (13 يناير/كانون الثاني 1898) الذي كتبه زولا دفاعاً عن ألفريد دريفوس، الضابط في الجيش الفرنسي، الذي اتهم في 1894 ظلماً بالتجسس لكونه يهودياً.

يقول بلينال إن "لأجل المسلمين" كان بإمكانه أن يُعنون أيضاً "لأجل فرنسا"، لأنه "نداء للقضايا المشتركة، إلى استيقاظ كل المجتمع حتى تكون الجمهورية أخيراً للجميع".

يفكك الكاتب الخطاب المناوئ للإسلام والمسلمين ومقولاته المركزية الطاغية في أوساط سياسية وإعلامية ومثقفة، منطلقاً من مقولة "هناك مشكل إسلام في فرنسا"، التي تفوه بها المثقف، آلان فينكلكروت، والتي لقيت ترحيباً لدى مثقفين وسياسيين منهم ساركوزي. والذين يؤمنون بمثل هذه المقولات من مثقفين وسياسيين تبنوا دون تمييز أطروحات اليمين المتطرف. ويعني هذا أن فرنسا في حرب مع ديانة (الإسلام). وعلى هذا الخطاب الحالي، الذي يشبه ذلك الخطاب السابق (من نهاية القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية) الذي قال حينها بوجود "مشكل يهودي" في فرنسا، والذي قاد إلى الكارثة الأوروبية (المحرقة)، يقول بلينال، أردت أن أجيب بالانحياز إلى مواطنينا (الفرنسيين) من أصل وثقافة أو عقيدة مسلمة، في وجه الذين يجعلون منهم كبش فداء لمخاوفنا وشكوكنا.

يرى أن المواقف المعادية للمسلمين تتداخل فيها عدة عوامل وتتقاسمها أطياف سياسية مختلفة، يميناً ويساراً، ناهيك عن اليمين المتطرف. وتتمثل هذه العوامل في مقولات قديمة - جديدة مثل تفوق الحضارة الأوروبية، عدم تساوي الحضارات، حرب الحضارات، الإرث الإيديولوجي الاستعماري، الهجرة، الإسلام ... ويرى أن اعتبار الإسلام كتهديد يسمح بشرعنة إقصاء المسلمين الذين اختزلوا في الإسلام، فيما اختزل هذا الأخير في الإرهاب والتطرف. ويساهم كل هذا في بناء قضية مسلمة مفترضة تكون عاملاً تعبوياً ضد المواطنين الفرنسيين من ديانة أو ثقافة مسلمة. وعليه يقول "لأجل المسلمين إذن مثلما قد نكتب لأجل اليهود، لأجل السود، أو لأجل الغجر، ولكن أيضاً لأجل الأقليات والمضطهدين، أو بكل بساطة، لأجل فرنسا".

يرى أن الخلط بين جماعة بأكملها، من أصل أو ثقافة أو عقيدة مسلمة، وأعمال بعض الأفراد، ظلم في حقها. والسكوت عن هذا يعني تعود الضمائر على الإقصاء وشرعنة التمييز. وقد علمتنا التراجيدية الأوروبية في القرن العشرين تبعات القبول ببناء قضية يهودية. لذا علينا رفض بناء معاصر لقضية مسلمة، على الأقل لأننا نتحمل مسؤولية هذا الإرث.

يعود بلينال إلى مقال زولا، "لأجل اليهود"، قائلاً إنه يكفي أن نعوض في أسطره الأولى كلمة "يهود" بكلمة "مسلمين" حتى نقدر صداها بالنسبة لوقتنا الراهن. ويقول إن آلية الرفض الشامل، بما تحمله من أحكام وأفكار مسبقة وصور نمطية وتمييز، في حق اليهود والتي حللها زولا تتوافق وتلك المطبقة اليوم في حق المسلمين. فاليهود اتهموا حينها، يقول زولا، بكونهم "أمة في الأمة". أما مع المسلمين اليوم، فهناك الحديث عن "عدو الداخل" الذي يغرس في فرنسا إسلاماً مُهدِّداً ... ويتحمل مسلمو فرنسا ذلك لأنهم "عدو الداخل". وكما يقول زولا أن مصير اليهود في أوروبا هو نتاج قرون من اضطهادهم، يقول بلينال إن ما يتعرض له مسلمو فرنسا اليوم مرتبط أيضاً بالحقبة الطويلة للسيطرة الاستعمارية (يرى أن المسألة الاستعمارية وخاصة حرب الجزائر – لا سيما بالنسبة لليمين المتطرف وأجزاء من اليمين الجمهوري – من العوامل المؤسِّسة للخطاب والمواقف المعادية للمسلمين في فرنسا).

ينتقد بلينال سياسة الحكومة اليمينية السابقة، محللاً بعض تصريحات ساركوزي ووزرائه، التي ساهمت في شرعنة وتطبيع الخطاب المعادي لمسلمي فرنسا. فوزيره للداخلية، كلود غيان، تحدث مطلع 2012 عن "عدم تساوي الحضارات"، بأسابيع معدودة قبل الانطلاق الرسمي للحملة الرئاسية. وردّ عليه النائب عن جزر الأنتيل الفرنسية في الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى للبرلمان)، سارج لاتشيمي، مذكراً بالقيم المؤسِّسة للجمهورية الفرنسية ومتسائلاَ هل كان النظام النازي حضارة؟ وهل كانت همجية وعبودية الاستعمار مهمة حضارية؟ وقد ساند ساركوزي حينها وزيرَه معتبراً تصريحه منطقياً. ويلاحظ بلينال أن الطبقة السياسية والصحافة أدانتا أقوال لاتشيمي أكثر مما أدانتا تصريح غيان، رغم أن خطاب لاتشيفي وجيه ومبرر، ويستند إلى حجج. وكل ما قاله هو أنه ذكر "بالمبادئ الديمقراطية التي تأسست على أوروبا غداة الهمجية النازية والمحرقة اليهودية". كما ينتقد بلينال حكومة فرانسوا هولاند اليسارية الحالية، التي لم تحدث قطيعة مع هذا الخطاب. فرئيس حكومته، مانويل فالاس، اعتبر أن التحديات الثلاثة التي تواجهها فرنسا هي: الهجرة، عدم توافق الإسلام مع الديمقراطية وجمع الشمل العائلي (هناك قانون في فرنسا يسمح للمهاجرين باستقدام عائلاتهم – الزوجة والأولاد – إلى فرنسا للاستقرار فيها). ويرى بلينال أن الإسلام وظف هنا لصناعة "عدو شامل"، محلياً، فضلاً عن توظيف التوترات الدولية لاستهدافه محلياً أيضاً، مذكراً بأن فالس، الذي عمل منذ ترؤسه الحكومة على تطبيع عبارة "عدو الداخل" (المتمثل في الإسلام والأحياء الشعبية في ضواحي كبريات المدن الفرنسية التي يقطنها مسلمون ولكن سود أيضاً)، اعتبر أن إيران هي من ابتكر مفردة "إسلاموفوبيا"، بينما الحقيقة أن هذه المفردة ابتكرت في فرنسا في 1910.

وتستهدف الحكومتان اليمينية السابقة واليسارية الحالية، في رأيه، الأقليات نفسها: المسلمين والغجر. أقليات يطلب منها الانصهار تماماً في المجتمع الفرنسي، لكنها تُنعت وتوصم في الوقت نفسه وفق أصولها الدينية أو العرقية... ويرى أن كراهية الدين المستهدفة للإسلام بالأساس وممارسي العبادات الإسلامية تعبر عنه علمانية غير متسامحة، لا علاقة لها بالعلمانية الأصلية. فمنذ قضية النقاب الإسلامي (1989) مروراً بقانوان2004 حول النقاب إلى الجدال المتجدد اليوم، تُوظف العلمانية، لكنها علمانية لا تمت بصلة إلى العلمانية الأصلية، التي لا تعني رفض عبادات الأقلية، وإنما الاعتراف بها. ويرى بلينال أن حال هؤلاء العلمانيين غير الأوفياء لرسالة 1905 (قانون العلمانية لعام 1905) بالنسبة للعلمانية مثل حال التطرف الديني بالنسبة للدين. كما يرى أن الدولة العلمانية لا هي معادية للديانات ولا هي غير مكترثة بها، بل هي خارج الدائرة الدينية. لكن يتعين الحذر من عودة الديني تحت أشكال أخرى، من خلال هذه المشاعر السياسية "التي تقدس الأمة، الحزب، الهوية، إلخ."... مشاعر تستهدف الآخر. والآخر في مجتمعاتنا الأوروبية تجسد في المسلم. وعليه فخصمنا ليس غير الخوف، لذا علينا أن نطرح الشجاعة كبديل له. إن الخوف من العالم، اليوم كما بالأمس، هو من صلب كراهية الأجانب والعنصرية، مستدلاً بما كتبه جان- بول سارتر عام 1946، يقول بلينال إن الآخر الأسود، العربي مرفوض، إلا إذا انسلخ عن تاريخه وذاكرته. وهنا يكمن صميم التحدي الفرنسي، ففرنسا بحاجة إلى التأسيس لخطاب التسامح كبديل لخطاب الحقد والكراهية لما يوصم بالآخر، الذي هو في واقع الحال جزء لا يتجزأ من الجسد الاجتماعي الفرنسي. فالجمهورية الفرنسية تقوم على المساواة بين مواطنيها.

من خلال استعراضه للمقارنة بين وضع ومآسي اليهود، وما أدت إليه، وبين وضع المسلمين اليوم ومخاطر ذلك مستقبلاً، يرى بلينال أن الاستكانة وعدم الاكتراث بالخطاب العنصري والتمييز في حق مسلمي فرنسا، من جهة والتفاعل بين العنصرية الاجتماعية اليومية وعنصرية الدولة، قد تقود إلى تكرار التاريخ في أبشع صوره. لذا يخاطب فرنسا لتستيقظ من سباتها وأن تدافع عن شرفها ومجدها، كما خاطبها زولا بالمفردات ذاتها في قضية دريفوس. فكتاب بلينال صرخة دفاعاً عن المسلمين، ودفاعاً عن فرنسا لحمايتها من نفسها، من توظيف قيم الجمهورية ليس لحمايتها وإنما لضرب الجمهورية، كما يبين ذلك الكاتب من خلال استهداف فكرة المساواة المؤسِّسة للجمهورية الفرنسية للتمييز بين المواطنين الفرنسيين. وقد حلل زولا مثل هذا التوظيف لما تحدث في مقاله "رسالة إلى فرنسا" (يناير/كانون الثاني 1898) عن الرجعيين الذين يعانقون الجمهورية لخنقها. مقال استدل به بلينال مرات عدة. هل يعيد التاريخ نفسه، ولو بشكل مختلف، مع تغير في هوية الآخر المستهدف؟ كتاب بلينال إنذار قبل فوات الأوان. وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذر.

(كاتب وباحث جامعي جزائري في فرنسا)

المساهمون