زها، أنت المهندسة فحلي المعضلة

31 مايو 2016
أعمال للفنان اللبناني كميل حوا (بإذن من الفنان)
+ الخط -
لو استطعتُ، قبل صعودك يا زها*، لكنت طلبت استشارتك في تثبيت الخيمة / الوطن، أو جمل الحكاية فوق كوكب الزئبق هذا. حين نظرت إلى أعلى المحطة، قرأت السقف العالي المنحني المستحيل وكأنه مدّ الآه تبدأ أو تنتهي. ذاك المدّ المرسوم بقصبة براها وعيك. أحسست سقفك المحلّق في السماء "الغريبة" ساترًا من مطر ثقيل وبارد. كان القلب سابقًا يضحك من رائحته حين يهطل فوق تراب ساخن، منه جئنا قبل الاحتلال، وبعده. 

وأنا أنتظر في المحطة تحت سقفها، الذي يشبه الزخرف، لم أشعر بأني غريب، رغم بون المسافة الشاسع بينها وبين عالمٍ صبغ جلدي وشعري ويرتوي من ذاكرتي، خطر لي أن أبني هيكلًا للغياب. مجسمًا يشبه فنون المدينة وتماثيلها. يكون قابلًا للطي في حقيبة وُشمت كلعنة في صفحة أجدادي اللاجئين، والركض بها بعيدًا وقت الحاجة.
في عصر الزلازل وانشقاق الأرض كيف نبني؟ أنت المهندسة فحلي المعضلة: بيت اللاجئ مضاد لقانون الجاذبية، المبحر: "النفر"/ "الحارق"، استثناء في قاعدة الأواني المستطرقة، والحكاية متشظية ومنثورة على مدى الطرق غير المعبدة. "حديد" من اسمك قد يشدّ العبارة، طيّعا يصير بنيران اكتشفها جدٌّ بعيد لنا، يحرق بها أحفاده الأرض، وتحترق بهم. أيمكننا إعادة تدوير ركام "حواضر الشرق" وجبال الرماد لنصنع طوب هيكلنا؟. على أكياس الإغاثة هذه، التي تسرقها حواجز الجنود وتمنعها عن المحاصرين الجائعين، سترسمين تصميمًا يليق بالرحيل اللانهائي، والمقام المؤقت. لكن ماذا عن أرض الزئبق؟ أنت المهندسة فحلي المعضلة. 

بقلم يملؤه الزهو، سترسمين أساسًا للجدران. فلتكن عميقة كفاية لتحمل ما لا يحمل، وبارتفاع نصف متر لا أكثر لنشدّ إليها الشادر/ الحائط، ليصير قادرًا مثلًا على حمل صورة لقتيل في السجن أو في البحر / البر، أو لملمح الطمأنينة على وجهه وهو في حضن زوجته قبل موعد قذيفة بثوان. لن نبني ملجأً تحت الأرض، لم تحم الملاجئ يوماً اللاجئين أو الخائفين من "قنابل ذكية" كانت، وحدقة لتقتلهم ولو كانوا في بطن الحوت. أتذكرين ملجأ العامرية حيث رسمت تلك القنابل بلحم الأبرياء على الأرضية والجدران صورة للمشهد الأخير؟. طفل في حضن متكور إلى حائط توهج من جمر النار والخيبة، بان حينها "منظور" الطيار الأميركي لمفهوم "الملجأ"، لم يبق من "العامرية" إلا لحظات أخيرة لفاجعة يتقاسم الأسود ودرجات البني لون فضائها، الذي صار فرناً، لذا لن نأمن الملاجئ؟ تخطين بقلمك، وأنا أحفر بمعولي وأشدّ حبلًا لئلا يتهودج وجه حائطنا.
هذا التراب من ركام داريّا الشاميّة، ممزوج بالمسامير والشفرات والعملات المعدنية التي فقدت قيمتها، تهطل بالبراميل المتفجرة فوق المباني والشوارع، وكروم العنب التي غصّت بمدافن الفلاحين. سيكون حجراً صلباً وعنيداً كداريا، وكروم الآلهة الأولين، سيكون جداراً يشبه ما تبقى من غزوات مقدسة راحت، وتركت خلفها قلاعًا، ألا تظنين ذلك؟ أيمكن أن تكون بنية الحجر وخلطة الشفرات والديناميت وعظام القرويين ضعيفة، لا تقلقي سنستخدم تراباً يخمّر الكروم إلى حد الكثافة، أو كصفيحات الدم سيتخثر الحجر فوق الحجر بفعل تراب داريا الأحمر، وسيصير جداراً أخضر، سنزرع أي شيء معلقاً ومتسلقاً حيث الشمس تطل بعد أن يجلو الغبار، سيكون جدار "غياث مطر"، وسيسقي كل حيّ حتى لو كان وحشًا يمتطي دبابة. 

جهة الشرق، لدينا صخر حتّه زبد البحر، صخر أول، ظهر لمّا نهضت اليابسة وكانت صخرة الروشة. صخر كأنه كان يغلي للتو، محفور الوجه كأن الفقاقيع تبخرت وتكونت على القشرة الآن. بمسطرة تستخدميها في خطوطك، وسحرك، بوخزة على لوح كتفي نبهيني إن شردت، وأنا أعمل على بناء حائط يطل على جهة بيروت، وذاكرتي الأولى بعمر العامين حين عبرت أمي بي "الطريق العسكري" بين سورية ولبنان لزيارة والدي النجار. أذكر بستان البازلاء الذي نام فيه أبي في ظهيرة قائظة، وبقيت أنا وأمي ننتظر استيقاظه وننصت لأصوات "الفدائية" في معسكر مجاور يتدربون قبيل الاجتياح الإسرائيلي.
وجه "الفدائي"، نبيل السهلي، الذي قتل في الاجتياح. بيروت التي لا تشبه إلا نفسها، ولا تكون شرقاً حتى إن أرادت، ولا غرباً كذلك. بيروت التي لم أرد يوماً أن تكون خيمتي، كانت كذلك لمّا اضطررت، بيروت التي انتشر فيها لصوص الإغاثة والمخبرين، وتحتفظ بآثار الرصاص على جدرانها. البيوت التي لا زالت فوق ركامها، ونبت فيها الشجر. الجرائد والكتب والقرّاء، البارات والمقاهي والرطوبة العالية، النزق حينًا وحينًا "الرواق"، مدينة كأن الحرب لم تغادرها فيما يركض من شبحها الناس. قد شردت في ذاكرتي، لكني صقلت صخر "المنارة" بحيث صار ناعماً كحجر مسجدها القديم، سنستخدم الصخر على آخره، وسنترك ما تبقى على الشاطئ كاسرًا للموج، أو ياطراً لمركب يرتاح. 

قد لا تكون بيروت أعظم المدن، ولا حديثة، كروتردام التي بنيت مجدداً بعد الحرب، لكن بيروت مدينة وجدت منذ الأزل ولم تندثر، ولا تتلاشى كزبد بحرها. لهذا حجرها صلب. من جدار بيروت سنفتح نافذة على دمشق، فارسمي تصميماً لقنطرة الشباك الذي يهب منه هواء غربي على جهة الشرق، ما رأيك لو أرخينا ستارة أرجوانية تطل على أزقة الياسمين، لينحجب الحنين كلما تفتح نرجس المدينة؟.
سنبني جداراً ثالثاً من حجارة عكا، تلك التي هرّبها اللاجئون في بقجات الرحيل القسري، ومن الحجارة التي سقطت عن سور مقبرة مجزرة "صبرا وشاتيلا"، اخترت حجارة من سور المدينة البحرية، التي استحالت فولاذًا في وجه السفن الخشبية القادمة من جهة الغرب، قبل أن تنتصر عليها "سفن الفولاذ". وحجارة لم تتلوث ببول الباعة المنتشرين خارج سور المقبرة/ "متحف المجزرة". هذا سور لا ينهار. ولا يتثاقل من أسماء ثلاثية أو خماسية أو سباعية، ولا تؤذيه جذور الإسم، بل تمسك بنيانه كشبكة تلبسه وحيكت من حرير وفضة، وطرزت بمثلثات بعل ونبات ينمو على ثوب الجليليات والساحليات. 

أما الرابع فمن خشب نبنيه، وكذا السقف. كجدار غرفتي الرابع في مخيم اليرموك، لدي قطعة من ذاك الجدار وعتبة من سلم الخشب. ولدي قشر لشجر الكينا، من مقبرة "بلد الشيخ" على سفح الكرمل، حيث يرقد الثالث والرابع والسابع والعاشر من رحلة اسمي وابن جبلة "عز الدين القسّام"، ولشجر كان في اليرموك "جُزراً" لطيور الدوري من فيض الحداثة ودوّامات الإسمنت التي تعلو طابقاً فوق طابق، كما كان يرى حسان حسان، صديقي الذي غاب في "فرع فلسطين"، الذي كان له وجه فلسطيني خالص، بقلب لا يحتمل النظر إليه من شدة نوره. السقف سنرفعه على وتد / غصن، احتطبته من حديقة "ديدالوس" النحّات العظيم في جبل "إريشه" الصقلي، من تحفته المعمارية التي تسلى بها في أثناء منفاه هناك. سنثبته بحجر أهداني إياه "أليسيو" من بيت جده المتداعي على سفح الجبل، وقد كان سابقًا يضج بالحياة وصهيل الخيل، وحكاياته التي كان يحكيها عن رحلاته في تجارة الخشب، بين صقلية وتونس والإسكندرية وحيفا وبيروت. وسنرمي فوق السقف كل قشنا، وكل نباتات صحارينا وسعفها الجاف.

وبعد انتهائنا من بناء الخيمة، لا بد من أن نجد لها حقيبة تتسع لصخبها واستعاراتها، لنهرب بها وفيها، حين يقترب موظفو بلدية روتردام ليسألونا عن "ترخيص" مغامرتنا، وقد يصادرونها لأنها تنتصب في طريق المسافرين. أتتعجبين لماذا نخبئ الخيمة في الحقيبة؟ لأن الخيمة قد تصير وطنًا، أو هدفًا لبرميل متفجر أو صاروخ "غبي" أو "ذكي". لأن الخيمة "لعنتنا" التي تحمينا، أو تنقلب تابوتًا عائما فوق طوفان الدم، أو بساطًا طائرًا يحملنا، أو يظللنا، كسقف المحطة المحلّق هذا، جملتك في روتردام.

* المعمارية عراقية الأصل زها حديد
المساهمون