جنزير: الفنان همزة وصل بين عمله وناظره

27 يناير 2015
جنزير، يدا الحرية، معرض "كلنا أميركان"، نيويورك
+ الخط -
بابتسامة هادئة يقابلك الفنّان المصري جنزير أو محمّد فهمي. فالفنان المشاكس اتخذ من مدينة نيويورك محطةً يعيش فيها منذ سبعة أشهر، ويبدو أن المكوث بها سيطول.”الكل أميركان“ ”All American“ هو عنوان معرضه الأخير الذي افتتح في غاليري "ليلى هيلر"، الواقع في حي تشيلسي في مدينة نيويورك. 
ذاع صيت جنزير- وهو الاسم الذي يفضل محمّد فهمي استعماله - خلال الثورة المصرية، وخاصّة في أعمال الغرافيتي. وتحديدًا من خلال رسومات جدارية عنوانها: "جدارية الشهداء"، ورسم آخر اشتهر أيضًا، يواجه فيه راكب دراجة هوائية الدبّابة، وغيرها الكثير من رسوم "الغرافيتي". بيد أنّ تجاربه الفنية، التي بدأها عام 2007، لا تقتصر على فنّ الغرافيتي فحسب، فقد رسم الجداريات والكوميكس، وأقام معارض فنية لجأ فيها إلى "الأنستالايشن" أو التجهيز، وكذلك أعمال فيديو وغيرها من تعابير الفنّ المعاصر. سبق لجنزير أن عرض أعماله في دول عدّة خارج مصر، من بينها هولندا وألمانيا وبلجيكا وفنلندا والأردن والبحرين والإمارات العربية المتحدة وكندا. وكتبت عن أعماله عدّة صحف أميركية وعالمية من بينها صحيفة "نيويورك تايمز". أما موقع "هافنغتون بوست" الأميركي، فوصفه بأنه واحد من بين خمسة وعشرين فنّانا في العالم، "يخلخلون الفنّ العامّ". وكان هذا حوار ملحق الثقافة معه في نيويورك. 

- انتقلت إلى السكن في نيويورك قبل سبعة أشهر، لماذا؟ 

لقد تركت مصر في شهر مايو/أيار 2014، وأتيتُ إلى نيويورك كسائحٍ، من دون خطة واضحة. كما تعلمين، أصبح الوضع في مصر لا يطاق. وبعد وصولي إلى هنا، بدأت بالاتصال والتواصل مع عدّة أشخاص من العاملين في مجال الفنّ. وعملنا سويةً على عدّة مشاريع مختلفة. وبعد فترة اتصلت بي، شيفا بلاغي، وهي واحدة من المتخصصين في الفنّ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، وطرحت علي فكرة عرض أعمالي في غاليري "ليلى هيلر" في نيويورك. 

- إلى أي مدى كان هناك تقارب في وجهات النظر بينك وبين القائمين على الغاليري، حول ما ستقدّمه لجمهور أميركي، ونيويوركي تحديدًا؟ 

عندما اتصل بي المنظمون في الغاليري، واقترحوا علي إقامة المعرض، كانوا راغبين بأن أعمل شيئًا عن بلدي مصر، وعلى وجه التحديد عن ثورة يناير والوضع تحت حكم السيسي (الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي)، بل إن هذا ما توقعوه مني . لم يكن لدي مانع من الناحية المبدئية، ولكنني رأيت أنه من الأنسب أن أعمل على المدينة، نيويورك، وعلى أميركا من ناحية نظرتي الخاصّة للمشاكل هنا. في البداية، لم يرقهم الأمر، وخاصّة أنني جديد في البلد. أظن أنهم اضطروا للاستجابة، بعدما وجدوا أن لا نية لدي لتغيير رأيي. ومع الوقت تحمّسوا للموضوع. 


- تناولت في معرض نيويورك مواضيع ورموزًا في الثقافات الأميركية، ومارتن لوثر كينغ ومارلين مونرو والشرطة وغيرها، وعرضت تلك الأيقونات أو المواضيع بطريقتك ونظرتك كشخص لا يعيش هنا منذ مدة، شخص ما زال يمكنه أن ينظر إلى الأمور "من الخارج". إلى أي مدى كان التحضير لهذا المعرض بالنسبة لك معقداً؟ 

بصورة عامّة، أستقي مواضيعي وأستلهمها من طريق الإيحاءات الناتجة عن مراقبة كلّ ما حولي وملاحظته. 
الأمور هنا مختلفة تمامًا عمّا هي عليه في مصر. فهناك لا يمكنك النظر إلى أي مكان، من دون رؤية المشاكل ورؤية الحاجة والرغبة في التغيير. قبل سنوات، حين كنت مقيمًا في هولندا ضمن برنامج منحة فنية لمدّة بضعة أشهر، واجهتني مشكلة كبرى، إذ لم أتمكن في البداية من رؤية أية مشاكل في هذا البلد. على الإطلاق. فأنا أحتاج لرؤية المشاكل والإشكاليات والمفارقات، كي أبتكر عملًا فنيًا. ولم أكن راغبًا بأن تكون مواضيع أعمالي عن الورود مثلًا. بينما الأمور مختلفة هنا في نيويورك، لذا لم أواجه، من هذه الناحية، مشكلة من هذا القبيل. نيويورك مدينة كبيرة وشاسعة، وفيها الكثير من الأمور الموحية والإشكاليات والمشاكل، عليك فقط أن تفتح عينيك. 

- ما هي الأمور التي لاحظتها أو فتحت عينيك عليها في نيويورك، وكيف وظفتها في أعمال معرضك؟ 

عندما قتلت قوات الشرطة الأميركية في نيويورك، إريك غارنر الأميركي ذا الأصول الإفريقية الذي قُتل خنقًا على يد شرطي أبيض، وبرّأته هيئة المحلفين. انتشر شريط الفيديو الذي يصوّر مقتل إريك، وخرج الكثيرون إلى الشوارع غاضبين. ولكن في المترو، لاحظت وجود عدّة صور أو "إعلانات" لقوّات الشرطة، كُتب عليها ما معناه "افتخرْ بالشرطة" أو شيء من هذا القبيل. استغربت ألا يقوم الناس بتمزيق هذه الإعلانات في تلك الفترة. كانوا يمرّون من أمامها من دون أن يعترضوا. قلت في نفسي، الشيء نفسه يحدث في مصر، ولكننا نمزّق هذه الإعلانات. فقد قامت الثورة لأننا لم نعد نتحمل عبث الشرطة وظلمها. فأخذت الصورة نفسها والعنوان نفسه، وأضفت إليهما اللحظة التي يخنق فيها الشرطي، إريك غارنر، كي تظهر المفارقة، والعبثية في إعلان مثل "افتخر بالشرطة". وهذا واحد من ثمانين تصميمًا أو عملًا فنيًا تناولتها في المعرض. 

- دعنا نعود إلى فترة ثورة 25 يناير وما تلاها، حتّى خروجك من القاهرة إلى نيويورك. كيف تنظر إلى تلك السنوات الأربع؟ هل تشعر بخيبة أمل من مسار الثورة المصرية؟ 

نعم طبعًا من الناحية النفسية. الوضع لا يطاق، وأريد التغيير فورًا. الوضع بعيد كلّ البعد عن الطريق الصحيح. أنا أنظر إلى السنوات الأربع باعتبار أنها غير منفصلة وتمثّل جزءًا لا يتجزأ مما مرّت مصر وتمرّ به منذ عام 1919. تصيب الثورات انتكاسات، ولكنني مؤمّن أن السيسي سيسقط عاجلًا أم آجلًا. 


- كيف تأثّر عملك كفنّان خلال المراحل المختلفة من السنوات الأربع الأخيرة؟ 

قبل سقوط مبارك (الرئيس المخلوع حسني مبارك) خلال الثمانية عشر يومًا، كان عملنا كفنّاني غرافيتي ينقسم إلى شطرين: خارج ميدان التحرير وداخله. في داخل الميدان، تجدين المؤيّدين ولا يوجد مشاكل، بل بالعكس ثمّة ترحيب بعملك. لكن العمل الأهمّ كان خارج ميدان التحرير، هو العمل الأخطر، ومن الممكن أن يؤدّي إلى الاعتداء عليك أو إلى حبسك. المشكلة، أن الكثير من الناس كانوا يصدّقون ما يبثّه التلفزيون المصري الرسمي من دعايات ضدّ الثورة. لذا وقتذاك، كانت رسومات الغرافيتي أو أي عمل فنّي آخر نقوم به، يتمّ بسرعة بسبب المخاطر. 
أمّا في الفترة التي تلت تنحّي مبارك، أو إجباره على التنحي، فقد تمكنّا من القيام بما نريد. إذ كانت الشرطة والجيش غائبين والشارع مستعدّ ومشجّع لذلك. فبدأنا مشروع جداريات للشهداء، وأوّل جدارية قمت بها، كانت للشهيد سيف الله مصطفى. أتذكّر كيف كان الناس يحيطون بها، ومنهم من بقي يتفرّج علينا لساعات طويلة، إذ استغرق رسم الجدارية نحو اثنتي عشرة ساعة، بل إن أحدهم بادر إلى التبرع بجلب الدهان بعد أن نفدت بعض الألوان. 
تعرفنا إلى ناس كثر من الذين تطوعوا لمساعدتنا. كان جوًّا جميلًا جدًا. لكننا لم نتمكن من إكمال مشروع الجداريّات لأسباب لوجستية، من ضمنها أن العدد كان بالمئات، وأن الأوضاع تدهورت في مصر مرّة أخرى. كان علينا أن نتفاعل مع نبض الشارع ونتناول في رسمنا ما يحدث. وبدأ الجيش يركّز علينا بشكل أكبر. المشكلة التي طرأت وقتها أن العديد من الناس كانوا لا يزالون مؤمنين بشعار "الجيش والشعب إيد وحدة"، فإن تمكنت من الإفلات من الشرطة أو الجيش، فإنك تجد الناس يتشاجرون معك. 

- وماذا عن مرحلتي الإخوان المسلمين والسيسي؟ 

بالنسبة لنا كانت فترة الإخوان مصيبة، لأنه لا يمكنك أن تنتقد أحدًا؛ لا الجيش ولا الشرطة ولا الدين ولا الإخوان. أرادونا أن نسكت. وكانت المشكلة أحيانًا مع مؤيّدي الإخوان، الذين بدأوا يخرّبون ما نقوم به من عمل، عن طريق شخبطات على رسومات الغرافيتي. لكن، رغم كل هذا، استمررنا في العمل والرسم. ولكن حين جاءت فترة السيسي، أصبح الأمر ليس مصيبة فقط، بل مستحيلاً. فكل رسم أو عمل أو حتّى شخص يقبض عليه بسبب انتقاده الشرطة أو السيسي، تتطوّر الأمور لتصبح المسألة أمن دولة وإرهاباً. وهو ما جعل العمل بالنسبة لنا مستحيلًا بالمطلق. 

- ما هو الدور الذي يجب أن يؤدّيه الفنّان في المجتمع برأيك ؟ 

لو نظرت إلى اللقب "جنزير" التي تعني باللهجة المصرية سلسلة عجلة الدراجة الهوائية، ومعانيَ أخرى، فهو يرمز إلى همزة الوصل بين الدوّاسة حيث يضع الراكب قدمه لتحريك العجلات وسوق الدراجة. والمقصود من ذلك أنك كفنّان أو كشخص ما، غير مهمّ، وأنك لست المركز في عملك. لذا، فإن الذين ينظرون إلى عملك عليهم أن يجدوا أنفسهم فيه، لا أن يجدونك أنت وتجاربك الشخصية. استعملت لفظ "جنزير" من قبل، فقد كان اسم مكتب تصميم غرافيك، افتتحته عام 2005. وكانت نظرتي أن على مصمم الغرافيك أن يكون همزة الوصل هذه التي حدّثتك عنها. وقتها كنت أستغرب كثيرًا أن العديد من الشركات تنتقي أسماء لها، لا علاقة لها بمحيطها وبيئتها. هكذا احتفظت بالاسم، بقيت حاملًا لـ "فلسفته" في الفنّ إن شئتِ. الفنّان في رأيي هو الذي يسلّط الضوء على المشاكل المحيطة به. هو القلب النابض والفكر الناقد في المجتمع، هذا ما قمت به قبل الثورة، وما زلت مستمرًا به حتى الآن.




المساهمون