الدولة العميقة كشبكة اجتماعية [1-2]

25 يونيو 2015
قصة الشبكات الاجتماعية قديمة كقدم المجتمعات (Getty)
+ الخط -
في الحقيقة أنت وأنا وكل من تراهم سواء الأشخاص البسطاء أو ذوي النفوذ والسلطة هم جزء من شبكات اجتماعية مختلفة، وكل الأفكار والأيديولوجيات وتجلياتها من مؤسسات وتنظيمات هي صورة أو تطبيق من تطبيقات الشبكات الاجتماعية، وبتحليل أي شبكة من هذه الشبكات يمكنك أن تتفاعل معها إما تفكيكاً أو تركيباً.

قصة الشبكات الاجتماعية قديمة كقدم المجتمعات، ولكن بدأت رواية القصة تأخذ بعداً آخر عندما بدأ ستانلي مليجرام - أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد - سؤاله عام 1967 عن ماهو عدد الوسطاء من الأشخاص الذي يحتاجه أي شخصين ليس بينهم معرفة سابقة ليصل أحدهم بالآخر.

وللإجابة على السؤال شرع في تجربة بسيطة عُرفت في ما بعد باسم ظاهرة العالم كقرية صغيرة (small world phenomena)؛ وجد ميليجرام بعد إجراء التجربة أن درجة التباعد بين أي شخصين هي 6 تقريباً وظهرت تفسيرات رياضية تالية لفكرة درجات الانفصال الست (six degrees of separation).

بدأت موجة من الرواج للنظرية انتهت بنقد لها واعتبارها خرافة علمية إلى أن جاءت دراسة في 2007 تدعم النظرية قام بها جور ليسكوفك وإريك هورفينتز لإعادة تجربة ميلجرام، ولكن استخدموا في ذلك رسائل الدردشة على مايكروسوفت لتحليل رسائل ما يصل لـ 240 مليون شخص من مستخدمي البرنامج وتحليل الرسائل ليصلوا في النهاية إلى أن درجة التباعد هي 6.6 تقريباً.

كل هذه المقدمة بكل بياناتها ليست مهمة إلا في إثبات أن الشبكات الاجتماعية كمفهوم أوسع كثيراً من شبكات التواصل الاجتماعي (Facebook, twitter, instagram ……) التي تعتبر أحد التجليات المبدعة لفكرة الشبكات الاجتماعية.

تكمن أهمية شبكة ما أو قوتها في قوة أفرادها ومدى تأثيرهم وقوة العلاقات البينية في الشبكة وبقدر متانة العلاقات وتماسكها وأهمية الأشخاص الفاعلين فيها؛ بقدر قدرة هذه الشبكة أو غيرها على التأثير في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع.

لقد انتهى بشكل كبير الظن القديم عن المؤسسات أو التنظيمات وتأثيرها كوحدة واحدة لتصبح هناك شبكات مؤثرة حتى من داخل التنظيمات أو المؤسسات؛ وسواء كانت مؤسسات حكم أو مؤسسات اقتصادية؛ فقط ما تحتاج إليه كشف المعلومات وتدفقها بين الشبكة لتعرف هذه الحقيقة.

فالمعلومات في الشبكات كالدماء في الشرايين أو النبضات العصبية للعقل وقدرته في التحكم في مجريات الحركة والحياة، وبقدر معرفة تدفق المعلومات والأشخاص في تحريك القرارات وترابط الشبكة؛ كلما تستطيع تحليل تصرفات هذه الشبكة أو تلك، ويمكن كذلك قياس مدى قدرتها على الاستمرار أو احتمالية تفككها لصالح شبكات أصغر أو التلاشي؛ فالشبكات لا تندمج ربما تتداخل أو تتواصل مع شبكات أخرى أو ينفصل أفرادها من شبكة ليندمجوا في شبكة أخرى، ولكن تبقى الشبكة كياناً بذاته لا يسمح بالاندماج في شبكة أخرى.

هذا التطور الضخم في المعرفة بالشبكات وتحليلها انعكس بشكل كبير على التطبيقات المختلفة سواء الاقتصادية أو السياسية والاجتماعية؛ فاليوم بإدخال عنصر الرياضيات يمكنك إحداث تحليل رقمي أقرب ما يكون للدقة لقوة شبكة ما وعناصر ارتكازها؛ فالشبكات مهما تشعبت واتسعت تبقى خاضعة لنموذج معبر عنها وهو يمثل سبب ارتباطها أو وجودها ويتركز في عدد محدود وقليل من الأفراد يمكن إخضاعه لمعادلات رياضية تخبرك حجم شبكة ما أو ضعفها.

ولقياس مدى فاعلية وصلاحية أي شبكة، فإننا يجب أن نفهم حاجة الشبكات لعنصري الانتشار، التأثير؛ فكل شبكة تبحث عن التشعب والامتداد وهو الذي يجعل من الصعب ضرب هذه الشبكة أو إضعافها، وكلما عبرت عن مصالح شرائح أوسع وارتبطت وتداخلت مع شبكات أكبر، كلما أصبح هذا أحد الضمانات الرئيسية لبقاء الشبكة وصلاحيتها، وكلما اتجهت أي شبكة اجتماعية للانعزال أو الانغلاق وتمركزت حول ذاتها ولم تتمدد لتصل لشبكات وشرائح أخرى، كلما فقدت صلاحيتها، وكلما كان لها القدرة على فرض إرادتها وامتلكت الرؤية للحركة، كلما حافظت على مدى تأثيرها ونفوذها.

ففي كل المجتمعات تتشكل شبكات بسيطة تلقائية وأخرى مركبة ومفتعلة وبقدر ما يتوفر لك من المعلومات ويتكشف لك من المساحات المختلفة من التركيب والتعقيد للشبكات كلما استطعت أن تتفاعل مع الشبكات المركبة من أول التصالح معها وتجنبها إلى التصادم معها والقضاء عليها.

فالشبكات وتحليلها في النهاية أداة من الأدوات يمكن أن يستخدمها الجميع فهي أداة الإرهاب وهي أداة محاربة الإرهاب، وهي أداة بناء المجتمعات وتماسكها وترميم أي شرخ يودي بالمجتمع وهي أداة تفكيك المجتمعات وإحلال الفوضى فيها، ولكن القاعدة الصريحة هي أن الشبكات تنشأ تلقائياً كما تنشأ بفعل مقصود؛ فكلما نجحت في تفكيك شبكة معينة فأنت أنشئت شبكات أخرى دون أن تعلم، فأنت من يختار احتمالات تفكك الشبكات لأخرى وأنت من يتحمل مسؤولية ذلك ومضاره.

ربما كان الربيع العربي كاشفاً لأهمية دور الشبكات التي تجلت في تأثير شبكات التواصل الاجتماعي ولكنه في الوقت ذاته كاشف لهشاشة هذا التأثير في الأوقات اللاحقة، وما واجهته الثورات من سيناريوهات مختلفة عادت فيها إلى الشبكات الأكثر انتشاراً وتأثيراً، وتداخلت فيه الشبكات المحلية بالإقليمية وظهر مستوى أكثر تركيباً في الشبكات والمصالح التي تعبر عنها ومدى تأثيرها وفاعليتها.

لقد انتشر مفهوم الدولة العميقة في الوقت الذي ظهر فيه التغيير الذي تنتظره المجتمعات التي نجحت ثورتها في اقتلاع رأس نظام والإخلال بشبكة علاقاته سواء فيما ظهر في مصر أو تونس، وهذا المفهوم المستعار من التحول الديمقراطي في تركيا ظل حديث الأخبار والتحليلات لكننا لم نجد من يكشف لنا من هي الدولة العميقة وما هي شبكتها وما هي عناصر نفوذها أو تأثيرها، ولو كنا نعرف بالتأكيد كانت القدرة على تفكيكها أسهل بكثير وأقل كلفة مما جرى في الأعوام الماضية، فقط اكتفى الجميع بالإشارة لحزمة من المؤسسات التي تمثل الدولة في النهاية أما الجزء المسيس من هذه المؤسسات والذي يشير لمفهوم "العميقة" ظل خفياً ولا يزال والرهان على المستقبل يبدأ بفهم هذه الشبكات وإدراك قدراتها الحقيقية ومدى تشابكاتها.

(مصر)
المساهمون