المنظومة التعليمية في العالم العربي: بين الإصلاح والاصطلاح

20 يونيو 2016
(تصوير: توماس جول)
+ الخط -

يعتبر التعليم عماد النهضة الفكرية والثقافية للأمم والركن العتيد في بناء صرح التنمية، وأحد أهم دروس التاريخ الثابتة أن الاهتمام بقطاع التعليم هو السبيل نحو تجاوز العقبات السياسية والإكراهات الاجتماعية، بل والارتقاء إلى منازل الصفوة في قيادة العالم.

وفي المنطقة العربية، شكل قطاع التعليم محور سجال كبير منذ الاستقلال فقد كرست العديد من برامج الإصلاح وتأهيل التعليم وتم العمل على صياغة برامج وخطط متعددة الأهداف، لكن باستثناء التطور النسبي والملحوظ لقطاع التعليم في دول الخليج، تظل باقي الدول العربية تعاني من ضعف هذا القطاع، وكثرة أوجه الخلل في اندثار القيم التربوية، ورداءة العرض التعليمي من حيث المحتوى والمستوى، وغياب التوجيه المدرسي الفعال وعدم وجود رؤية واضحة لغايات ومقاصد التعليم.

إضافة إلى ما سبق، يعاني قطاع التعليم من تضخم بيروقراطي وغياب الاستحقاقية، الأمر الذي أفرز ممارسات فاسدة كانتشار الغش، والعنف المدرسي، والرشى والمحسوبية، وتسريب الامتحانات، والترقي في السلم الإداري بالأقدمية وليس بالإنجازات وسطوة المقاربة الكمية على الجودة النوعية للتعليم، فاهتمام الدول العربية ما زال منصباً على عدد الخرجين ونسبة الناجحين والحاصلين على الشهادات، من دون التطرق إلى ما اكتسبوه من معارف وكيفية توظيف مهاراتهم في خدمة الوطن، ودرجة وعيهم بالفرص والمخاطر التي تخص محيطهم الوطني، والإقليمي والدولي.

لقد عملت الدول العربية في العقود الأخيرة على تحسين وضعية التعليم والارتقاء به كقطاع اجتماعي وخدمي مؤثر، فكانت البداية بالتركيز على البنية التحتية من خلال إنشاء مدارس وجامعات والانفتاح على تخصصات مختلفة مع توفير المعاهد المهنية ومراكز التكوين، كما حاولت العديد من الدول الاعتماد على مناهج وسياسات تعليمية غربية، حيث شجعت القطاع الخاص على الاستثمار بقطاع التعليم عبر محفزات استثمارية بالحصول على أراضٍ بأثمنة رمزية وكذلك إعفاءات وتخفيضات ضريبية كما هو الحال في مصر ولبنان والمغرب وتونس والأردن.

على هذا المنوال، حاولت الدول العربية استنساخ التجارب التعليمية الرائدة وتطبيقها على أرض الواقع، وانقسمت الدول بين من اختار النظام الفرنسي في التدريس، وبين من اختار النظام الأنغلوساكسوني، وهناك من حاول استيراد حلول جاهزة للمشاكل التعليمية عبر تجارب روسيا، واليابان وألمانيا، محاولين جلب المناهج فأصبحت النقاشات التعليمية تدور حول هل يجب الاعتماد على المقاربة بالموارد، بالكفاءات أم بالمهارات؟ وهل النموذج الياباني أكثر فعالية من نظيره الألماني من حيث التعامل البيداغوجي مع الطلاب والتلاميذ؟ ناهيك على السجالات الساخنة حول لغة التدريس وتدريس اللغات، ثم إشكالية لغة التدريس واختلافها عن لغة الفهم ولغة البحث.

في المجمل، تبقى هذه الإصلاحات شكلية تهتم بالمباني وتنسى المعاني، وتجسد منطق الدولة؛ كأن التي تهتم بالمظهر وتنسى المخبر، لا يشغلها إلا أن تقوم بالشيء المعمول به في دول أخرى، وهي بذلك تعتبر أنها أدرجت ضمن المقبولين، متناسية أن هذا المنطق يقتل طاقاتها الإبداعية ويغتال روحها الإصلاحية.

إنها الإدارة التي تحاول تسجيل النقاط بأهداف فارغة متجاهلة أصل المشاكل غير مدركة لغاية تحركاتها، فالعجز ليس في علاج المشكلة، بل في القائمين على علاجها وبدل من الغوص في جوانب الإصلاح وفي عمقه، نتوه في الشكليات ونقوم بإجراءات صنمية مفرغة من كل محتوى، ونفكر في الأداة أكثر من الغاية، وبذلك نفسد من حيث نريد أن نصلح، فتصير مؤسسات التعليم لا تعلم وتتحول أجهزة الإصلاح إلى مراكز تخريب، الأمر الذي يغير بوصلة البحث عن حلول إلى التكيف مع المشكلة، ثم نقوم بالتنظير لفكرة التكيف، ولنا في ظاهرة الساعات الإضافية خير مثال على التكيف مع المشاكل.

ففي محاولة للارتقاء بمستوى التلاميذ، أنشئت مراكز الساعات الإضافية كأنها حل لمثالب التعليم والمستوى الهزيل للتلاميذ، والتكيف مع المشكلة جعل من اللجوء للساعات الإضافية هو القاعدة العامة وغيرها هو الاستثناء.

إن إصلاح التعليم في العالم العربي رهين بالإجابة على سؤال بسيط، لكنه منطلق الحل لكل مشاكل هذا القطاع ألا وهو: لماذا نعلم؟ هل نعلم لمحو الأمية والتثقيف؟ هل نعلم لتوفير الكفاءات اللازمة لسوق الشغل؟ هل نعلم لتحسين مراتبنا في سلم التنمية البشرية والحصول على دعم من المؤسسات الدولية؟ هل نعلم لتزويد التلاميذ بالشهادات؟ ثم إن إصلاح هذا القطاع يستلزم تحييد المقاربة الأمنية المسيطرة على العقل المؤسساتي للتعليم العربي، الأمر الذي يقيد حرية الاختيار وابتكار حلول جديدة للنهوض بهذا القطاع.

يُبنى الإصلاح على ثلاثة عناصر: إرادة صادقة، قوة في الإصلاح وتخطيط له بالشكل الذي يبعدنا عن فكرة الاشتغال بحالة الطوارئ في البحث عن حلول، بل من خلال التوفر على إصلاح بنيوي واستشرافي برؤية واضحة لمستقبل التعليم.

لقد غرقت الدول العربية في التفكير بالمصطلحات والشعارات، كما هو شأن إصلاح التعليم غير مبالية بالبحث في جوهر المفهوم عبر تحديد المقاصد والاستفادة من الأخطاء وابتكار مناهج تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والخلفية الاجتماعية والثقافية للمنطقة، فالباحث عن المفهوم يفكر بعقله، والمستغرق في المصطلح والمبنى يفكر بعاطفته، أما المسجون في الشعار يفكر بأذنيه، إنه التجسيد الحقيقي لقول أمير الشعراء أحمد شوقي في رائعته مصرع كيلوباترا:
اسمع الشعب دُيُونُ كيف يوحون إليه ... ملأ الجو هتافاً بحياة قاتليه ... أثّر البهتان فيه وانطلى الزور عليه ... يا له من ببغاء عقله في أذنيه!


(المغرب)

المساهمون