لا تقع حرب في مكان إلا وتسقط شظاياها المادية والسياسية والاقتصادية على مكان آخر. تضرّ الحرب بالإنسان وتهشم المكان مهما كانت الأسباب والدواعي، لكنها تنفع الشعوب التي تستخلص دروساً من هذه الحرب حول واجب امتلاك المقومات الحقيقية للقوة وعوامل السيادة.
بيد أن كثيراً من الأنظمة الحاكمة في إقليمنا العربي، والنخب التي تشتغل لصالحها في تفسير السياسات الحكومية تحديداً، تجد في الحرب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، فرصة مثالية للدعوة، وبجرأة، إلى مزيد من تمركزات العسكر في الحكم وزيادة التسليح، وتبرير فائض الصرامة والتسلط السياسي. فضلاً عن إعادة تدوير النقاش حول صحة الخيارات الديمقراطية وسلامتها، والتشكيك في القيم والقدر اللازم من الحريات التي يجب أن يتمتع بها المجتمع.
بشكل ما، بعث الغزو الروسي لأوكرانيا نقاشات في الجزائر حول هذه المسائل السياسية. إذ وبغض النظر عن بُعد بعض الدوافع السياسية والأسباب الثقافية التي تقف وراء خلق التوتر في أوكرانيا وتطوره إلى حالة حرب، فإن ثمة جانباً من هذه النقاشات تمركزت حول معنى الديمقراطية التي تحمل ممثلاً سينمائياً كفولوديمير زيلينسكي إلى سدة الحكم، وتنتج رئيساً قليل الخبرة لقيادة بلد تحيط به المخاطر الجغرافية المتحركة، وإدخاله في لعبة محاور وصراعات قاسية.
وفي لحظة قلقة، تساءل بعضهم: ماذا لو نجح الحراك الشعبي الجزائري، وجرى انتقال ديمقراطي غير ناضج يحمل إلى الحكم، باسم الديمقراطية وإرادة الشعب والحريات، قوى لا تتوفر على القدر الضروري من الكفاءة السياسية، والفهم اللازم لمشكلات الجزائر ومقتضيات الجغرافيا وتحديات الأمن؟
مثل هذا النقاش هو تهريب للحقيقة، ومزايدة على المطلب الديمقراطي، وتعسّف بالنظر للوقائع الجزائرية، التي تثبت في سياق تقييم مخرجات نظام الحكم القائم وسياسات تدبير الشأن العام، أن أوضاع البلد (من دون انتقال) السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم تكن أبداً مناسبة لمقدراته وإمكاناته البشرية والمادية، وأن أزماته المتجددة لم يتم إيجاد أي توازن لها بالمطلق، مع تراكم التجارب التاريخية لبلد بحجم الجزائر، يفترض به أن يتخذ من هذه التجارب محددات هامة لهندسة المستقبل. بل إن جزءاً كبيراً من هذه الأزمات هو نتاج واضح لعدم احترام هذه التجارب.
هذا وحده يجيب على هذه النقاشات، ويؤكد أن البناء على استحقاقات الحرب لتبرير الاستمرار في نموذج حكم معيّن، والتركيز على الحاجة إلى القوة والسند العسكري وحده، ليس سليماً أبداً.
للأديب العربي جبران خليل جبران قول بالغ المعنى، يقول فيه إن "الوطن يقوم على ثلاثة: فلاح يغذي، وجندي يحمي، ومعلم يربي"، والحقيقة أن جبران اختصر المعنى السياسي للقوة الواجب امتلاكها لأي بلد، بحيث لا يصبح لهذه القوة أي معنى أو فاعلية من دون حضور المقومات الثلاثة معاً في اللحظة نفسها بالنسبة للوطن.
فإذا لم تمتلك القمح بمفهوم الأمن الغذائي، فإن القوة العسكرية وحدها لن تكون كافية لحماية البلد، بحيث تبقيه في حالة استنقاص للسيادة. كما أن امتلاك القوة العسكرية ليس كافياً من دون تطوّر علمي يكفل إنتاجاً محلياً للقدر الضروري من الغذاء والدواء وقطع الغيار وتطوير التكنولوجيا، لأنه ومثلما تطورت محددات السيادة وتطورت مفاهيم القوة، تغيّرت أشكال الأمن والعدوان.
والموت المجاني الاستثنائي خارج إطار المعتاد صار السمة الأوضح لكوكب الأرض الذي يتقاتل فيه أهله مع بعضهم، في مشهد انتحاري عبثي. وفي الوقت الذي يجتهد فيه علماء وباحثون في اكتشاف أدوية وعلاجات جديدة لأمراض أجساد البشر المستعصية، تظل رغبات هؤلاء البشر المستعصية في القضاء على أنفسهم بأنفسهم خارج دائرة الأمراض الجسدية هي الأقوى. وتظل أمراض أرواحهم مقاومة لكل علاج أو دواء مقترح.
وعلى سبيل الموت المجاني العبثي، بأشكاله المختلفة، برزت، أخيراً، قضية الموت السوري على شواطئ اللجوء البعيد باعتبارها أحدث أشكال الموت الجماعي الذي تتفنن البشرية في ابتكار أشكاله الجديدة، كلما بهتت ألوان الأشكال القديمة له، واختفت معالمها.
واضح أن العالم بلغ من الجنون أوجه، وأننا كلما تقدمنا، أو ظننا أنفسنا، كبشر نتقدم، إنما ننجرّ إلى الحضيض الذي لا ندري، في النهاية، إلى أين سيؤدي بنا، إن استمرت الأنانية تحكم العالم، وتتحكم في مصائر سكانه، على مستوى الأفراد والجماعات والدول والأمم.
اليوم هو الأخير من العام 2015 الذي شهد أكبر وأقسى موجة لجوء بشري منذ عقدين، أي منذ حركة لجوء الروانديين إثر محاولات الإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها في بلادهم.
فعلى الرغم من أن السوريين فكّروا بترك بلادهم، منذ اندلعت فيها نيران الثورة التي سرعان ما تكالب عليها كثيرون، ليحولوها من ثورة شعب حر ضد الطغيان إلى أزمة حرب داخل الأراضي السورية، شاركت فيها أطرافٌ تنتمي لكل بقاع الأرض تقريباً، بلا منتصر مؤكد حتى الآن، إلا أن اللجوء الذي بدأ على استحياء، في البداية، تحول، في العام المنصرم، ليكون هو هدف معظم السوريين، أو هكذا ظهر الأمر في مختلف وسائل الإعلام العالمية.
ليس أمامي رقم محدد لعدد اللاجئين السوريين الذين نجحوا في اللجوء لأي بلد خارج سورية، والذين يحاولون، والمؤكد أنه يزيد عن بضعة ملايين من بلدٍ عدد سكانه أثنان وعشرون مليوناً. لم تفرغ سورية من سكانها بعد، ولن تفرغ إن شاء الله، لكن من يتابع مشاهد اللاجئين في نشرات الأخبار، منذ منتصف العام المنصرم، سيبدو له كأن سورية كلها تحاول اللجوء هرباً من الطغيان ومن الحرب ومن العدوان ومن الفقر، ومن الغرباء الذين وجدوا فيها أرضاً خصبة لتغذية نزعات القتل لديهم تحت شعارات مختلفة! خصوصاً أن سورية كانت من أوائل البلاد العربية التي هبت عليها رياح الربيع العربي منذ العام 2011، إلا أن الرياح لم تأت بما اشتهت الثورة والثوار، ذلك أنها البلد العربي الوحيد من بين بلدان الربيع الثوري التي لم تترك لشأنها ولشأن أهلها، فاستقبلت موجاتٍ من المتحاربين الغرباء، وبدت خريطة مصغرة لعالمٍ يكره نفسه، ويحاول الانتحار بأيسر السبل، ولا سبيل كالحرب تمكّنه من ذلك... اليوم في سورية، وغداً في أماكن أخرى من وطننا العربي!
تعرّف "ويكيبيديا" اللاجئ بأنه "الشخص الذي يهرب من بلده إلى بلد آخر، خوفاً على حياته، أو خوفاً من السجن أو التعذيب. وبتعدد أسباب اللجوء، تتشكل أنواعه، الحرب، الإرهاب والفقر". حسناً.. أنظروا كم عدد الذين يودون الهروب من بلدانهم للأسباب المذكورة، لتكتشفوا أن الوطن العربي كله أصبح لاجئاً، أو يتمنى اللجوء إن تيسر له ذلك، هرباً من الموت العبثي، أو سعياً إليه.. لا فرق كبيراً.