ألبير قصيري أو الكسل كفلسفة حياة

28 فبراير 2014
الفوضى السعيدة للجماهير
+ الخط -
لو قُدِّر للكاتب المصري ألبير قصيري (1913 ـ 2008) أن يعيش خمس سنوات إضافية لكان قد عمّر قرناً كاملاً من الزمن. لكن مئوية ولادته التي حلّت العام الماضي مرّت في عالمنا العربي بصمتٍ مُعيب لم تكسره إلا بضعة مقالات تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، وبالتالي لا تفي هذا الأديب الفذ حقّه من الاهتمام النقدي. وهذا ما يدفعنا اليوم إلى الاحتفاء به، ولو بشكل متأخر، عبر تسليط الضوء على موهبته الكتابية النادرة التي وضعها في خدمة مواضيع ثابتة ومثيرة تواترت في جميع رواياته.

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن قصيري، بخلاف رفاقه في مجموعة "فن وحرية"، لم يترعرع داخل محيط عائلي يتكلم الفرنسية بل العربية. أما لجوئه إلى لغة موليير في رواياته فيعود إلى دراسته في مدارس الإرساليات الفرنسية، علماً أن مراجعه ومصادر وحيه بقيت مصرية مئة في المئة، على رغم استقراره نهائياً في باريس منذ عام 1945.

وكردّ فعل على الوحي المتكلّف وغير المجسَّد لأدب تلعب المجلوبية (exotism) فيه دوراً رئيساً، سجّل، قصيري، "عودة إلى البشري" (عنوان إحدى قصصه) من خلال تناوله الواقع البائس في المدينة المصرية. ففي جميع نصوصه، نستشفّ تعلقه الشديد بالشعب المصري البسيط وهاجس استقبال كلامه. وهذا ما دفع، هنري ميلر، إلى القول في شأنه:"إنه لا يقف فقط بينهم، بل هو واحد منهم".

ويتجلى ذلك بقوة منذ نصوصه الأولى، التي تؤدّي شخصيات فقيرة، وشديدة الطرافة داخلها الأدوار الرئيسة. وهل من شيء مصري أكثر من لجوء الفقراء إلى الفكاهة؟  فعلى الرغم من معاناتها من البرد والجوع واليأس، لا تملك هذه الشخصيات الحسّ المأساوي إلا في أقصى تجلياته؛ ومن هذا الحسّ بالذات تستمدّ متعتها الخفية وفكاهتها. أما سخرية الروائي الشهيرة فتنخرط ضمن حبكة خطاب لن يلبث أن يتحرر من هدفه الأول، أي الثورة وتحرير المضطهدين، للاحتفاء بنشوة الحضور ببساطة في العالم بعيداً عن ضوضاء التاريخ وجدّيته. وفي هذا السياق، تجد الحياة المظللة بالموت ملجأها الأكثر أماناً في حركة الكتابة نفسها، ولا يحضر الأمل من خلال تأكيد بلاغي لمستقبلٍ نيّر بقدر ما يحضر في تلك القدرة الثابتة على الفكاهة التي تناقض جمود القدر ومأساويته.

ومنذ نص "مدينة أهل البلد"، يتحول البؤس تحت ريشة، قصيري، من طغيان يتوجب زعزة أُسسه إلى شرف يتمثل في عدم امتلاك إلا ما هو جوهري، أي السعادة البسيطة المنبثقة من العيش داخل طيش اللحظة الصافية والآنية. أما الإطار الذي ستنشط داخله شخصيات الروائي، فلن يتغير من رواية إلى أخرى، أي مدن مصرية يسهل التعرّف إليها (القاهرة، الإسكندرية ودمياط) وتعبرها حدودٌ تفصل بين عالمَين غريبين الواحد عن الآخر: العالم البُرجوازي الذي يتسلط عليه الملل، والعالم الشعبي الذي تعجّ شوارعه الوسخة ومنازله البائسة بالحياة.

ومن العالم البُرجوازي البارد ستهرب شخصية "جوهر"، في رواية "شحاذون وفخورون"، وشخصية "تيمور"، في رواية "مكيدة مهرّجين"، للاستقرار داخل عالمٍ يبدو مغلقاً في ظاهره، لكنه في الواقع مفتوح على فضاء إنساني فسيح تعيش فيه جموع فقيرة بسعادة كبيرة وحرّية أصيلة. أما شخصية "سمنطر" فتقول لنا: "أنتمي إلى حضارة أخرى تضع الحياة فوق كل شيء". والمقصود بالحياة هنا، التبطّل عن العمل للتفرّغ لمُتع العالم، وفي ذلك رأى، قصيري، فضيلة رئيسة زرعها في جميع شخصياته وأماكن عيشها، وإن بطُرُق مختلفة. فشارع "المرأة الحامل" في قصة "انتقام ساعي البريد" يُشكّل نقيض الشواطئ النيّرة والهادئة لمدينة "ضفة" في رواية "طموحٌ في الصحراء". والخَدَر الذي تعيش داخله شخصية الكوّاء "حنفي"، في القصة المذكورة، لا علاقة له بحياة البطالة المتقنة لشخصية "هيكل" في رواية "العنف والسخرية".

لكن بشكلٍ عام، يحدد الكسل في روايات، قصيري، هامشاً يمكن لسعادة العيش أن تنمو فيه، خصوصاً حين تتقاسمها مجموعة من الأصدقاء ملتفّة حول معلّمٍ لا يخدعه شيء. وفي هذه الحال، يتحول إلى آداب عِشرة أصيلة يتعذّر على جميع الذين يعملون إدراكها ومعرفة قيمتها. ومن هذا المنطلق، تبدو شخصيات، قصيري، فخورة بوضعها كمُشاهدين من بعيد لساحة عمل، ينشط البشر داخلها بجدّية تجعلها تظهر على شكل كوميديا مضحكة ومبكية في آنٍ واحد.

أكثر من ذلك، يصوّر، قصيري، الكسل كمسألة تتجاوز بكثير تلبية الرغبات السهلة، كالتمدد على كنبة وتدخين الحشيش أو الثرثرة بلا انقطاع أمام كوب من الشاي، كونها تُلزِم كامل سلوكنا وتؤسس لنظامٍ معلًّل من الوجود يصبح شرط الكينونة والمعرفة والامتلاء. وفي هذا السياق نفهم قول مدحت في رواية "مكيدة مهرجين": "لا يمكن تصوّر تقدّم روحي إلا داخل عالم لعب وأُلْهُوات".

وعلى المستوى الشكلي، يكوّن التناقض الظاهر في أعمال قصيري، مواضيعها مصرية ولغتها فرنسية،  مصدر أسلوبها الرائع. فجهده في نقل نبرة اللغة المصرية المحكية وإيقاعاتها إلى لغة، موليير، هو الذي جعل منه الكاتب الذي نعرفه. ومن العبث البحث في أعماله عن تفصيلٍ مجلوب أو طرافة مجانية، عن هلالٍ أو صورة منمّطة لنهر النيل. فبالنسبة إليه، "لا يقود أي فولكلور إلى سرّ الكائنات" (جورج حنين).

وانطلاقاً من هذه الحقيقة، لم يسع، قصيري، إلى تتويج كبرياء الفقير المترفّع عن أمور الدنيا أو الفوضى السعيدة للجماهير أو حسّ الأخوة الذكورية، بأسطورة شرقٍ أكثر خمولاً وشهوانيةً من الحضارات الأخرى؛ بل تمكّن، وهنا تكمن إحدى مصادر عبقريته،  من جعل ما يتجنّب قوله بوضوح بديهياً، أي من دمج انتمائه إلى عالمٍ آخر (مصر) غير عالم اللغة المختارة (الفرنسية) بأكثر جوانب الكتابة حميميةً واستحالةً على الإدراك.

مصري بشكلٍ راديكالي، ومتعوي بحزمٍ، ومؤمن بالخمول كفلسفة حياة؛ رضخ، قصيري، مع ذلك لجهد الكتابة مدفوعاً بضرورة خطابه، الذي يتجاوز حدود بلده ليطاول جميع البشر المتشابهين، في نظره، أينما وُجدوا. وفي هذا السياق، قال: "أكتب لأن لديّ شيئاً أقوله ضد هذا العالم، ضد عفنه وضد البُلَهاء"، علماً أن مشاعره تجاه البشرية تراوحت بين احتقار وحب، كما يظهر ذلك في قوله الآخر: "جميع رواياتي هي قصص حب".

وفعلاً، تشكّل النخبة الضيقة في رواياته عالماً صغيراً كاملاً، وبالتالي انعكاساً لما كان أو يمكن أن يكون عليه المجتمع البشري من تجاهُل للشر والكراهية. نخبةٌ تتألف من كائنات نادرة، تتجاهل أحياناً بعضها بعضاً، لكنها لا تنتظر سوى الكلمة المنقِذة التي ستكشفها لذاتها وللآخرين. وهنا تكمن أهمية، قصيري، الأولى في إيقاظه تلك الضمائر النائمة، وفي بلوغه بواسطة كتبه أولئك الإخوة المجهولين الذين يمنحون الكتابة بوجودهم كل معناها.

 

 
دلالات
المساهمون