الرجل الذي تحول إلى فراشة

10 اغسطس 2015
+ الخط -
مسرحية "الأبراج والريح" للكاتب ثيسر رينخيفو، الذي عاش تحولات بلد مثل فنزويلا، انتقل من النظام الديكتاتوري إلى نظام الكولونيل تشافيز، تقدم صورة تفصيلية عن علاقة الأدب بالسياسة، ودور المثقف والنخب في كشف الفساد والتنديد به، سواء عن طريق الإبداع الفني والأدبي، أو عن طريق الانخراط المباشر في الحياة الاجتماعية والمدنية. 

هذه المسرحية التي تتحدث عن الآثار السلبية للطفرة النفطية على الحياة العامة أكثر دقة من أي تحليل سياسي، ففيها نعثر على الملامح والشخوص وعلى العذابات التي تسببها الطفرات المالية والاقتصادية، وما يخلقه ذلك من رغبة في التحكم، وهيمنة للأنظمة الاستبدادية، وسيادة الفساد والرشوة، وسيطرة القيم المهترئة على المجتمع والساسة ووجدان الناس.
لذلك، يمكن فهم لماذا كان الأدب في أميركا اللاتينية، وعلى أيدي كتاب كبار، يسبب الهلع والجنون لرجل السلطة ويؤرق المجتمع المخملي، ويبعث على الخوف ويذهب بأصحابه إلى السجون، وربما إلى فقدان حياتهم في اغتيالات مباشرة أو في "حوادث سير غامضة"، أو يدفعهم التزامهم بقضايا مجتمعهم وأمتهم، وتحت الضغوط الكبيرة، إلى عدم التنازل والمساومة، وتفضيل المنفى ومواصلة النضال من الخارج على الانبطاح والانصياع والإذعان.
ولذلك، ظلت هذه الكتابة التي نعتها الخصوم في النقد الأدبي بـ "الواقعية السحرية" مستعصية على هواة التسطيح وعشاق التجريد. فلا يمكن، والحالة هاته، لشعب يموت يوميا بالرصاص أو يقضي بالجوع والأمراض الفتاكة، أو ينهكه مستوى العيش المتدني، أو يتحول وطنه إلى حفرة كبيرة لدفن الأحلام والحرية والديمقراطية، لا يمكن، في هذا الوضع الكلبي والمتكالب، وضع رجل على رجل، ورسم لوحة تجريدية للواقع، في حين إن ما يجب هو الهتاف وبعث الحرارة في الأوصال، والنداء عاليا والدق بقوة على جدران الخزان، والعمل اليومي من أجل الفضح والتنديد بالذي يحصل، ومحاصرة سراق الوطن ولصوصه، ودفعهم إلى الكف عن ارتكاب هذا المسلخ الوحشي، ولم لا إذا كان في الإمكان محاكمتهم محاكمة "عادلة".
كل هذا، وأكثر، هو ما يفعله الكاتب الفنزويلي في مسرحيته الرائعة "الأبراج والريح" التي تعتبر شهادة حية عن التمزق الذي عاشته فنزويلا خلال أكثر من أربعة عقود، وأدى إلى تفسخ اجتماعي وانهيار كامل للبنية السياسية والثقافية وموت الإنسان.
يطرح رينخيفو فرضية أن تتحول رافعات التنقيب عن النفط بعد نضوب هذه المادة إلى مجرد أشباح حديدية فارغة، تعوي في أمعائها الريح. فماذا كانت النتيجة في فنزويلا؟ تعدى الأمر ذلك، وتحول الأمر من اعتداء وجريمة ضد الكائن البشري إلى جريمة ضد الطبيعة. فمئات آلاف الهكتارات من الغابات جرى اجتثاتها، وانعكاساً لذلك، دمرت مدن وقرى وتجمعات سكنية، لأن شركات البتروال العالمية استطاعت أن تستحوذ على هذه الأراضي، بدعم من النظام الحاكم، الذي باع البلاد مقابل سمسرة والحصول على منافع آنية وإدامة استبداده. وهذا ما يقع، ليس في أميركا اللاتينية وحدها، بل في كل الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي تبيع البلاد مقابل الحصول على "عمولة".
من الجميل أن هذا الكاتب صدّر عمله الأدبي بحكمة صينية، تقول: في الأدب الصيني القديم قصة تروي عن حكيم صيني حلم يوماً أنه فراشة، وعندما استيقظ من نومه طرح على نفسه هذا السؤال: هل كان رجل يحلم بأنه فراشة أم أنه كان فراشة تحلم بأنها رجل! وفي الحالتين، لم يستطع ذلك الحكيم أن يصل إلى حقيقة هذا الحلم.
وهكذا تختلط الأمور على الإنسان، فيصعب الفصل بين هذين العالمين.. عالمي الوهم والحقيقة، وهو ما يقدمه رينخيفو في "الأبراج والريح".
6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..