في فيلم المؤلف وحيد حامد والمخرج شريف عرفة الشهير "الإرهاب والكباب"، كان وزير الداخلية "الفنان الراحل كمال الشناوي" يصلي في مسجد "مجمع التحرير" بوسط القاهرة، والذي تدور معظم أحداث الفيلم داخله، وبعدما أنهى إمام المسجد "الفنان أحمد أبو عبية" الصلاة، رفع الإمام يديه بدعاء سريع؛ ختمه بدعاء مقتبس من نص الأية القرآنية "اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا".
كان الإمام في "الإرهاب والكباب" يعلم أن وزير الداخلية يصلي خلفه، ومعه عدد من قيادات الشرطة الذين احتشدوا للسيطرة على الموقف في المجمع الإداري الأكبر في مصر، والذي سيطر عليه إرهابي واحتجز عددا كبيرا من المواطنين والعاملين داخله، لكن الشيخ، في الفيلم، قام من فوره ليسلم على الوزير وينصرف سريعا منهيا الموقف الذي يبدو من السياق أنه له دلالة درامية صريحة حول غضب الناس من ممارسات الشرطة، كممثل للدولة.
ركزت الكاميرا أثناء دعاء الشيخ على السفهاء؛ على وجه وزير الداخلية "كلوز كادر"، وظهر الوزير ممتعضا للغاية، لأنه فهم أن الشيخ يقصده بالدعاء، ثم مال الوزير على مرافقه "الفنان فؤاد فرغلي" مستنكرا: "هو يقصد مين بالسفهاء؟"، فكان المرافق، كعادة كل المرافقين، حصيفا، وقال من فوره: "أكيد يقصد الإرهابيين يا أفندم".
لم يستسغ الوزير الرد، لكنه تقبله محاولا نفي التهمة عن نفسه، أو عن النظام الذي يمثله، وقال: هي تمشي على الإرهابيين برضه. متجاوزا الواقعة بهدوء، في رصد عبقري للواقع من صناع الفيلم الذي أثار الكثير من الجدل حين عرضه.
تذكرت المشهد كاملا أمس مع تفجر أزمة دعاء الشيخ المصري محمد جبريل في صلاة تراويح "ليلة القدر" في مسجد عمرو بن العاص في القاهرة القديمة، والذي دعا الله بمعاقبة الظالمين ومن أراقوا دماء المسلمين، ودعا على الأمراء الفاسدين، والسياسيين الفاسدين والإعلاميين الفاسدين. لكن دعاءه لم يعجب جميع هؤلاء في "المحروسة"، والذين كان موقفهم مشابها لموقف وزير الداخلية في "الإرهاب والكباب"، لكنهم لم يتصرفوا مثله على الإطلاق.
دعاء الشيخ محمد جبريل في مسجد عمرو بن العاص مساء الاثنين، لم يكن فيه ما يمكن أن يفهم صراحة هجوما على النظام الحاكم في مصر، لكنه لا يخلو من تلميحات إلى كل الأنظمة الظالمة، وكان يمكن للنظام أن يتجاوز الموضوع مثلما فعل الوزير في الفيلم، باعتبار أن الدعاء عام وليس خاصا بأحد بعينه، أو بنظام بعينه.
لنعد بالمشهد إلى تاريخ جبريل مع مسجد عمرو بن العاص، يصلي الرجل التراويح في المسجد منذ أكثر من عقدين من الزمان، ويؤم المسجد عشرات الآلاف يوميا للصلاة خلفه، ويصل العدد في ليلة السابع والعشرين من رمضان إلى مئات الآلاف، ظنا أنها توافق "ليلة القدر".
يدعو جبريل سنويا نفس الدعاء تقريبا، وبنفس المدة التي تقترب من الساعة تقريبا، وتردد من خلفه الحشود كالمعتاد بالتأمين على دعائه، أمر معتاد يعرفه الغالبية العظمى من المصريين، ولا جديد فيه، ولم يثر يوما ضغينة أو غضبا أو يصدر بسببه قرار من الدولة، عدا دعاء أمس الأول.
أصدر وزير الأوقاف المصري قرارا وزاريا بمنع الشيخ محمد جبريل، قارئ القرآن المصري الشهير، من إمامة الصلاة في جميع مساجد مصر، ليس هذا جزءا من الفيلم، وإنما قرار وزاري واجب النفاذ، وبالفعل لم يصل الرجل في مسجد عمرو بن العاص مساء أمس.
أحدث دعاء جبريل الكثير من الجدل، وخصص الإعلامي أحمد موسى، وهو أحد الأذرع الإعلامية للنظام الحاكم، حلقة برنامجه مساء أمس للهجوم على جبريل، ووصفه بأنه يدعو على الدولة وعلى النظام وعلى المصريين وينحاز لجماعة الإخوان المسلمين، الإرهابية حسب وصف موسى.
واتهم موسى جبريل بأنه لم يتذكر في دعائه شهداء الجيش والشرطة والقضاء، واتهمه بأنه يتهم الإعلاميين الموالين للنظام بأنهم "سحرة فرعون"، وقال إن الوصف الذي استخدمه جبريل هو نفسه الوصف الذي استخدمه مرشد جماعة الإخوان المعتقل محمد بديع، متجاهلا أن سحرة فرعون وصف يستخدم في دعاء المسلمين باعتبار أن القصة وردت في القرآن.
لكن الأكثر إثارة كان فيديو عرضه موسى خلال الحلقة يظهر محمد جبريل مع شيخ أخر من شيوخ النظام القائم في مصر هو مظهر شاهين، في ميدان التحرير إبان ثورة يناير 2011، فيما اعتبره موسى دليلا على أن الشيخ ضد الدولة، وبأنها جريمة يجب أن يحاسب عليها. دون أن يطالب بمحاسبة مظهر شاهين الذي يظهر في الفيديو.
في مصر، كان محمد جبريل نجم يوم أمس الثلاثاء، بلا منازع، الكل يتحدث عنه، غلاة المؤيدين للنظام يتهمونه بأنه إرهابي أو إخواني ويطالبون بمحاسبته ويهللون لقرار منعه من الإمامة، وغلاة المعارضين للنظام يرون فيه شيخا صدع بالحق في وجه سلطان ظالم وفضح بقية شيوخ السلطان.
الفريق الأول استخرج من الأرشيف عددا من الفيديوهات والقصاصات التي تتهم الرجل في شرفه، وبينها ادعاء سيدة أنه عاشرها دون زواج، والفريق الثاني نشر عددا من الفيديوهات لصلوات سابقة كان إمامها ودعا فيها بنفس الدعاء.
فريق ثالث اعتبر الواقعة مثالا جديدا ينضم إلى كثير من الأمثلة على أن النظام الحاكم في مصر "فقد عقله"، أو أنه قرر أن يخسر كل مناصريه، مذكرين بواقعة هجوم أنصار النظام على لاعب الكرة الشهير محمد أبو تريكة، وأن النظام المصري الحالي ينطبق عليه قول المثل الشعبي المصري "على راسه بطحة".