بلفور وطفولة حيفاويّة: الشارع والوعد

02 نوفمبر 2014
ضدّ وعد بلفور
+ الخط -
كبرتُ وترعرعتُ في حيفا منذ بداية الستينات، وبالذات ترعرعت فيها ولم أختر هذه الكلمة عبثاً، لأن حيفا المدينة صهرت وبلورت ورعرعت روحي. كان بيتنا على الحد الفاصل ما بين حيفا الفلسطينية، على طرف وادي النسناس، وحيفا الإسرائيلية بشوارعها وأحيائها الحديثة التي جرى بناؤها في عهد الانتداب البريطاني وعقب وعد بلفور.

حيفا عام 48 كان يسكنها 75 ألف فلسطيني و75 ألف يهودي (معظمهم أتوا إلى البلاد بعد الانتداب البريطاني وبدعم من حكومات بريطانيا المتتالية). اليوم، نحن في حيفا 35 ألف فلسطيني، ومعظمنا لاجئون في الوطن، ولسنا من سكان حيفا الأصليين، مقابل ما يزيد عن 350 ألف إسرائيلي.

بيتنا كان شقة في دار من طابقين تقع على الشارع الرئيسي مباشرة، حيث توجد محطة باصات مركزية. كنّا العائلة العربية الوحيدة في العمارة وفي الحي الذي سكنه يهود أشكيناز أتوا من أوروبا وحلوا محلّ أصحاب البيوت الفلسطينيين الذين هُجّروا عام 48. هذه الأسباب كانت كافية لتمنعنا أمي من اللعب في الشارع (الحارة)، وحتى الآن في قلبي حسرة على انعدام مفردة الحارة من قاموس طفولتي، وربما هذا الذي جعلني أعيش حالة اغتراب أبدية في كل مكان أقيم فيه، إن كان في الوطن أو خارجه.

كان ملعبنا، إخوتي وأنا، "حاكورة"* صغيرة حول الدار، زرع فيها والدي كل أنواع الفواكه والخضار ونباتات الزينة الفلسطينية، ليعوّض ولو بالقليل غربته بعيداً عن قريته قيساريا. في الحاكورة، كنا نمضي معظم ساعات النهار. نلعب، نتشاجر، نبني بيوتاً فوق شجر الأكيدنيا، نعمل جنازة لجندب أو صرصور وندفنه بكل محبة تحت شجرة الزعرور، حتى كان يوم بنينا فيه خيمة من شرشف كبير، قررت أمي الاستغناء عنه، وبعدما أنهينا كل الألعاب الممكنة، وبدأنا نشعر بالملل، اقترح أخي الكبير أن نقوم بجولة خارج المنزل، من دون علم أمنا التي كانت مشغولة بأعمال المنزل. وافقنا جميعاً، لكن كيف العمل وأمي تطلّ "كل شويّْ" لتتأكد من وجودنا في الخيمة. بعد تفكير إجرامي "شويّْ"، قمت بأخذ ترانزستور والدي الصغير ووضعته في الخيمة لكي نضلل أمي بصوته فتظن أننا ما زلنا في الخيمة نلعب ونتشاجر.

خرجنا إلى شارعنا، واسمه شارع دانيال، على اسم النبي دانيال. منه طلعنا لشارع الأنبياء، ومن شارع الأنبياء أكملنا صعودنا إلى شارع هرتسل. مشينا فيه طويلاً ونحن ممسكين بأيدي بعضنا البعض خوفاً من الضياع، مبهورين من الدكاكين المختلفة، وخاصة دكاكين الحلويات وأكشاك المأكولات، حتى وصلنا إلى شارع "بول فور" (جميع أسماء الشوارع في حيفا مكتوبة بالعبرية إلى جانب ترجمة مهلهلة للعربية، وهذا من قوانين عهد الانتداب، ولاحقاً، كون العربية اللغة الرسمية الثانية في الدولة).

عندما قرأتُ اسم الشارع، بدأ أخي الكبير بالضحك عالياً، وأنا ما فهمت سبب ضحكه حتى فسّر لي معنى كلمة "بول" فضحكنا جميعاً، لكن أخي الصغير انتبه إلى وجود كشك بوظة في أول الشارع، وطلب من أخي الأكبر أن يشتري له واحدة، ولما رُفض طلبه، بدأ بالبكاء والصياح، وما نفعت محاولاتنا جميعاً لإفهامه أن لا نقود معنا لشراء البوظة. واستمر بالبكاء حتى اجتمع حولنا العديد من البشر يتكلمون العبرية، التي كانت شبه طلاسم بالنسبة إلينا. خفنا كثيراً وبدأنا جميعاً بالبكاء إلا أخي الكبير (كان عمره 7 سنوات)، كان أكثرنا صموداً وما كان منه إلا أن قال لنا: "يلاّ تعالوا نرجع، خلص المشوار".

وبالفعل، رجعنا بعدما تهنا قليلاً ووصلنا إلى شارع "هالحالوتس" (يعني الرواد)، ومنه وصلنا إلى شارع الأنبياء رجوعاً إلى شارعنا، شارع "دانيال".
لحسن حظنا، ما انتبهت أمي لغيابنا إلا عندما ذهب إليها أخي الأصغر باكياً وشكانا إليها قائلاً: "ماما جلال ودنا ما قبلو يشتروا لي بوظة من شارع بول فور"، ولما استفسرت أمي حول الموضوع، فهمت ما عملنا، وكان عقابنا "كم علقة صرماية عتيقة" على أجنابنا، تركت آثاراً مخيفة!

لاحقاً، تعرّفتُ أكثر على هرتسل وبلفور وأتباعهما، وفهمت أن هذه الأسماء ليست فقط أسماء شوارع الحي الذي سكنته في طفولتي، إنما هي أسماء كلّ مَن كان السبب في كل المصائب والنكبات والنكسات في بلادي.

------
اقرأ أيضا:
ماذا يقول الشارع اليوم لبلفور؟
وعد بلفور المشؤوم: زياد همّو حمل الرصاص في يديه 
موعد التاريخ لتصحيح الوعد
وعود قبل بلفور.. نابليون والروس والألمان سبقوا بريطانيا
وعد بلفور- كاريكاتير عماد حجاج
المساهمون