بين زيارة السجين وهدم السجن

24 ديسمبر 2017
+ الخط -
ما زال الرئيس الفلسطيني محمود عباس يدعو العرب والمسلمين إلى زيارة القدس، بذريعة أن زيارة السجين لا تعني التماهي مع السجان. أعاد عباس دعوته هذه، بنفس الذريعة، في مؤتمر القمة الإسلامية في إسطنبول الذي عقد للرد على قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. في تلك الأثناء، كان وفد بحريني يزور مدينة القدس، وهو أول وفد كهذا يزور فلسطين والقدس بشكل علني وبرفقة تغطية إعلامية توحي بأن خلف هذه الزيارة غايات أخرى. وقد جرى تخطيط هذه الزيارة بالتنسيق مع مؤسسة سايمون ويزنطال الأميركية، وهي مؤسسة صهيونية من أشدّ أعداء الفلسطينيين وحركات التضامن معهم.
قد تُفهم هذه الزيارة من باب "زيارة السجين"، إذ إن الرئيس الفلسطيني يلحّ على العالم بدعوته للزيارة. لكن بعض الزيارات، كما تشير زيارة الوفد "البحريني"، ليست بريئة، بل هي تطبيعية بامتياز، تريد الإيحاء بأن الاستعمار والأبارتهايد الإسرائيليين والعدوان المتواصل منذ عام 1948 لا تفسد للود قضية، فاليوم زيارة وغداً اجتماع وبعده صفقات تجارية تمتد لتصبح علاقات دبلوماسية وتنسيق أمني. طبعاً، ليست كل الزيارات من هذا النوع، فدوافع العديد من الذين يقومون أو يفكرون بالزيارة هي إما دينية وإما تضامنية. لكن هل يعني هذا، وبالرغم من النوايا الحسنة، أن المحصلة سوف تكون لمصلحة "السجين"؟
يبرر محمود عباس دعوته بأن هذه الزيارات هي دعم لصمود أهل القدس وفلسطين، وهي تعبير عن التضامن معهم وتكريس للتواصل بينهم وبين العالم، خاصة العالم العربي، فضلاً عن أن الزيارة تعني دعماً للاقتصاد المقدسي المنهار بفعل السياسات الإسرائيلية التي تضيّق عليه. هذه كلها تبريرات منطقية، لكن ينبغي قياسها مع ما تجنيه إسرائيل من فائدة من هذه الزيارات والتكريس السياسي لها.
السؤال الأهم في هذا السياق هو: إذا كانت هذه الزيارات تعود على الفلسطينيين بكل هذه المكاسب، وتدعم صمود الشعب الفلسطيني (الذي تحاول إسرائيل إذلاله وترحيله) فلماذا تسمح بها إسرائيل؟ لماذا تسمح إسرائيل أو بالأحرى تشجع على هذه الزيارات إن كانت بعكس سياستها وأهدافها العامة؟

الإجابة على هذا السؤال تكمن في الهدف بعيد المدى لإسرائيل - ترسيخ وجودها كدولة استعمارية عنصرية، والعمل على الاعتراف بشرعيتها وشرعية السياسات العنصرية التي تنتهجها بذريعة كونها دولة يهودية. تعلم إسرائيل أن الاعتراف العربي بشرعية إسرائيل لن يأتي بدون حل للقضية الفلسطينية، فالبديل بالنسبة إليها هو نهج مرحلي لتغيير التوجه السلبي العام ضد إسرائيل في العالمين العربي والاسلامي. فإن لم يكن هناك اعتراف بالشرعية دفعة واحدة، من الممكن لهذا الاعتراف أن يُبنى على مراحل وعلى مر الأجيال. فمن يزور اليوم للصلاة سوف يتغلب على حاجز التعامل مع السلطات الإسرائيلية (في المطار أو المعابر على الأقل)، وعلى حاجز التعامل بالعملة الإسرائيلية ومظهر قوات الأمن وهي في الشارع. شيئاً فشيئاً تصبح الأمور طبيعية كأنها جزء من المظهر العام للقدس، كأنها جزء أصيل من القدس وليس صورة من صور الاستعمار. كما أن هذه الزيارات تعطي الفرصة لإسرائيل بالادعاء أمام العالم أن حرية الزيارة والعبادة متاحة للجميع، هذا بالإضافة إلى أن السياحة، وإن ركزت على المتاجر والفنادق الفلسطينية، هي في نهاية الأمر، على الأقل حسابياً، جزء من الناتج القومي الإسرائيلي ومساهمة في ميزان المدفوعات.
هناك كثير من القرائن التي تدعم هذا الاستنتاج. فالتغطية والتقارير الإعلامية تتباهى بأن هذه الزيارات هي مقدمة لعلاقات علنية. كما أن السلطات الإسرائيلية ترى في هذه الزيارات مساهمة في نمو السياحة إلى إسرائيل ومصدر دخل. لكن أقوى هذه القرائن هي أن إسرائيل تمنع الفلسطينيين من الضفة وغزة، وفي بعض الحالات فلسطينيي الـ48، من الدخول إلى القدس. كما أنها تصّعب بشكل كبير إعطاء تأشيرات دخول للفلسطينيين من حملة الجوازات الأجنبية وحتى للأجانب من المناصرين للقضية الفلسطينية. في نفس الوقت تسعى جاهدة لإخراج الفلسطينيين من القدس، خاصة البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها كسلوان ورأس العامود والشيخ جراح وجبل الزيتون. فلماذا ترحّب إسرائيل بالزوار العرب والمسلمين إذا كانت ترى وجود العرب من أصحاب الأرض مشكلة يجب حلها؟ الإجابة الوحيدة هي لأن هذه الزيارات تعود عليها بالفائدة السياسية والاقتصادية.
هذه الزيارات إذاً تقوّي السجان وتطيل عمر السجن. هنا يجب أن نسأل: ما الذي يستحق الأولوية، زيارة السجين المسجون ظلماً أم إخراجه وهدم السجن؟

المساهمون