سيفا فايدياناثان.. عن فيسبوك وغزو البلهاء

30 أكتوبر 2018
باول كوتشينسكي/ بولندا
+ الخط -

"وسائل التنافر: كيف يسهم فيسبوك في قطع العلائق بين الناس ويقوّض الديمقراطية؟" (منشورات جامعة أكسفورد)، كتاب صادر حديثاً، وفيه نقد عميق لعملاق وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، حيث يشرح مؤلفه سيفا فيدياناثان ما يدعوه بـ "التهديد الذي تمثله هذه المنصة الأشهر على البشرية".

يقترح الكاتب في فصول العمل السبعة كيفية ترويض فيسبوك، واتقاء شرّه. ويقدم الكتاب عدداً من المقترحات لمواجهة المشاكل التي تأتي من وسائل التواصل الاجتماعي وتؤثر على مجتمعاتنا.

يفتتح المؤلف كتابه بمقدمة مثيرة يقول فيها: "إن كنت ترغب في بناء آلة من شأنها أن تنشر الدعاية لملايين الأشخاص، وتشتت انتباههم عن القضايا المهمة، وتعمل على تغذية الكراهية والتعصب، وتساهم في تآكل الثقة الاجتماعية، وتقوّض الصحافة المحترمة، وتشجع الشكوك في العلوم، وتنخرط في مراقبة شاملة للبشر، فإنك حتماً ستصنع شيئاً يشبه فيسبوك تماما".

ويبدو أن مقدمة المؤلف أعلاه تتساوق مع قول ينسب للفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو: "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء".

في المقابل، فإن فيسبوك ورغم تلك الصورة التي يرسمها له المؤلف ما يزال يحظى كل يوم بمتابعين جدد، فعلى الرغم من انتهاكه الخصوصية، ومن طفح صفحاته بالأكاذيب والشتائم، ومن الانتقادات الحادة الموجهة له من السياسيين والصحافة، يستمر فيسبوك في امتصاص قدر هائل من وقت الإنسانية واهتماماتها.

وقد أظهر أحدث تقرير للشركة، صدر بعد فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" وحملة "ألغوا فيسبوك" أن المنصة جذبت ملايين الأعضاء الجدد وارتفعت لديها مبيعات الإعلانات.

يقدم مؤلف الكتاب الأستاذ في جامعة فيرجينيا سيفا فايدياناثان محاسبة كاملة ودقيقة لخطايا فيسبوك، وسيكون معظم هذا النقد مألوفًا لأي شخص يتابع أخبار فيسبوك. ولكن ما يميز الكتاب بحسب الصحافي الأميركي نيكولاس كار مؤلف كتاب "الضحالة: ماذا تصنع الإنترنت بعقولنا؟" هو مهارة المؤلف في وضع ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي في سياق أوسع - قانوني وتاريخي وسياسي.
يضيف كار أن "انتقاد المؤلف لفيسبوك حاد، بيد أنه متوازن... لقد كشف عن بعض المزاعم الأكثر تطرفًا حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام".

وبعد صياغة المؤلف لسؤال الكتاب في المقدمة، يصف في الفصول التي تلي ما سماه بخطايا فيسبوك، مفصلاً الآلية التي يعبث بها في عقول البشر، خاصة ما يتصل بالمتعة والمراقبة والانتباه والاحتجاج والسياسة والتضليل.

يقدم المؤلف بعض الحلول، ولكنها ليست تلك التعديلات البسيطة التي يقترحها فيسبوك، ويعترف أنه لا توجد وسيلة في هذه المرحلة تعمل على إعادة صياغة نظام أساسي يكافئ التفاعل السريع أو العاطفي أو الضحل أو يهدئ المحتوى، ويضمن أن ملياري شخص هم سكان دولة فيسبوك يمكن أن يحسِّنوا من سلوكهم بأنفسهم.

ويقترح المؤلف "نحن بحاجة إلى دعم المؤسسات التي تولد المعرفة وتطوير المنتديات الممولة من القطاع العام للمناقشة والتداول. نحن بحاجة إلى تدخلات حكومية يصعب تخيلها في الوقت الحالي، ولكن ليس من دون سابقة تاريخية. نحن بحاجة إلى العمل عبر الحدود لجعل هذه الخطوات متعددة الجنسية إن لم تكن عالمية... ونحن بحاجة للقيام بذلك في وقت قريب".

ينقلنا المؤلف في الفصل الأول إلى مشهد بات مألوفاً لدينا تقريباً، وهو تشبث المسافرين على متن الطائرات بهواتفهم النقالة، أو تسمرهم أمام الشاشات المثبتة على مقاعد الطائرة. ويذكر أنه تعمد في إحدى سفراته الطويلة أن يتلصص على الركاب ليرى ماذا يشاهدون أو يفعلون، فكان أن وجد أن الجميع تقريباً منشغل بلعبة " كاندي كراش" التي دشنها فيسبوك منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها. ويتساءل الكاتب ما الذي توفره تلك اللعبة؟ هل ثمة فائدة أو سعادة ما يحصل عليها اللاعبون؟ أم هي متعة عابرة؟

وبعد نقاش مستفيض يخلص المؤلف في هذا الفصل إلى أن فيسبوك يمكن وصفه بأنه ماكينة متعة، ولكنها متعة خفيفة وعابرة، وهذا ما يجعل الناس يعودون إليه كلما ابتعدوا عنه، وهو إلى جانب ذلك ماكينة استياء، استياء عميق ومستمر.

في الفصل الثاني، يعرض لنا المؤلف وجهاً آخر من وجوه فيسبوك، وهو كونه ماكينة للرقابة والتحرش. وينقل المؤلف العديد من القصص والمواقف التي انتهكت فيها خصوصية الأفراد وخاصة النساء، والعاملات منهن على وجه الخصوص، واللائي تم تصويرهن في مواقف مختلفة بواسطة زملائهن وعرضت تلك الصور على صفحات فيسبوك. ورغم أن هذه الصور يجري مسحها بعد تقديم الشكاوى إلا أن العديد منها يجد طريقه إلى ذاكرة هواتف بعضهم.

في الفصل الثالث، يتحدث المؤلف عن وصف آخر لفيسبوك، وهو كونه ماكينة للشهرة وجذب الانتباه، ويذكرنا بحادثة ما عرف عام 2105 بتحدي "دلو الثلج" التي بدأت بظهور أحد المشاهير وهو يتلقى حمولة دلو من الثلج على رأسه ضمن إطار حملة لجمع الأموال لإحدى المؤسسات البحثية العلاجية، وما هي إلا أيام حتى انتقلت العدوى إلى الملايين الذين بثوا صورهم على فيسبوك ويوتيوب.

في الفصل الرابع، ينتقل المؤلف إلى الحديث عن فيسبوك باعتباره "ماكينة خير" وفق ما جاء على لسان مؤسسه مارك زوكربيرغ، الذي يكرر في أحاديثه عن فيسبوك بأنه يسعى إلى بناء العلاقات بين الناس، ويعمل على أن يكونوا في أمان خاصة في أوقات الكوارث، حيث يشير إلى الخاصية التي تمكن مستخدمي المنصة في مناطق الكوارث أن يعلنوا على صفحاتهم أنهم آمنون ولم يصابوا بأذى. لكن المؤلف يرى أن فيسبوك ورغم تلك الخدمة التي يقدمها لمستخدميه إلا أنه هو المستفيد في نهاية المطاف من أي نشاط يجري على صفحاته.

في الفصل الخامس، يستعرض الكتاب دور فيسبوك باعتباره وسيلة لتغذية الاحتجاجات، ويستشهد بما عرف بصفحة "كلنا خالد سعيد" التي ظهرت عقب مقتله من قبل الشرطة المصرية، وكانت الصور التي بثت فيها وتناقلها مستخدمو فيسبوك سبباً رئيسياً في تحشيد المصريين وصولاً إلى الثورة التي أطاحت الرئيس حسني مبارك.

بيد أن المؤلف ومع إقراره بما قام به فيسبوك من دور في ثورات الربيع العربي، يلفت نظرنا إلى أن فيسبوك لعب نفس هذا الدور ولكن بشكل سلبي عندما أصبح ماكينة لبث الكراهية عندما استخدمته الطغمة الحاكمة في ميانمار في دعايتها ضد مسلمي الروهينغا.

يسمي المؤلف الفصل السادس من الكتاب "ماكينة السياسة"، ويفصل فيه دور فيسبوك في النتيجة غير المتوقعة لاستفتاء خروج بريطانيا من "الاتحاد الأوروبي" عام 2016، وكذلك الفوز غير المتوقع للمرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب في العام نفسه على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون التي كانت كل التوقعات إلى جانبها.

ويفيض المؤلف في ذكر الأسباب التي أدت إلى ذلك، وليس فيسبوك ببعيد عنها، ولعل الجميع يتذكر ما عرف بفضيحة "كامبريدج أناليتيكا". فالشركة المذكورة، ووفق ما جاء في الأخبار عنها، حصلت على بيانات نحو 50 مليون مستخدم لفيسبوك من أجل التأثير على آرائهم قبيل انتخابات الرئاسة الأميركية التي أفضت إلى فوز دونالد ترامب. كما فعلت الأمر نفسه قبيل التصويت في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

و""كامبريدج أناليتيكا" شركة خاصة تعمل في مجال جمع البيانات وتحليلها، ومساعدة السياسيين في الحملات الانتخابية عبر دراسة توجهات الناخبين والتنبؤ بسلوكهم، وتحليل البيانات المتعلقة بهم، ودراسة طرق التأثير عليهم. وتستخدم الشركة -وفق وسائل إعلام غربية- طرقاً غير أخلاقية في دعم المرشحين السياسيين، بما فيها الترويج للأخبار الكاذبة أثناء الحملات الانتخابية".

ونصل إلى الفصل الأخير من الكتاب وهو السابع، ويخصصه المؤلف للحديث عن فيسبوك باعتباره "ماكينة للتضليل". وفي هذا الفصل لا يبتعد المؤلف كثيراً عن الفصل السابق فالحكاية ذاتها تتكرر هنا، حيث يستفيض في ذكر الوقائع التي تدعم وجهة نظره.

فإلى جانب انتشار ما يعرف بالأخبار الزائفة على صفحاته، مثله مثل بقية وسائل التواصل الأخرى، فإن فيسبوك نفسه كشف عام 2016 عن تدخل جهات روسية بشراء إعلانات كانت مليئة بالدعاية المضادة للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، واستهدفت بها قطاعات كبيرة من الناخبين الأميركيين لترجيح فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ويبدو أن تلك الجهات الروسية نجحت في أن تركب على ماكينة التضليل التي وفرها فيسبوك لتبلغ مقصدها.

المساهمون