لا بدّ من زيارة للطبيعة

01 سبتمبر 2015
لوحة للفنان التونسي حسين مصدق
+ الخط -
من على الجسر الفولاذي حيث تقف، أدارت النظر في السماء نحو الغيوم التي كانت تشبه قطعة كبيرة من القطن الأبيض. هبطت بعينيها نحو الأسفل قليلًا، فارتطم نظرها بمشهد غابة الصنوبر الكثيفة والخضراء. أبهرها الضوء الأخضر بعدما أطالت النظر بالأزرق السماوي وأبيض الغيوم. سمعت صوت عصافير كثيرة داخل الغابة، وحدست أن بين الصخور العالية هناك تعيش بضعة ذئاب. شعرت أن روحًا ما من الألوان أو من صمت الغابة تتغلغل فيها، من شعرها أولًا ثم إلى رأسها كبرقٍ في كبد السماء وسريعًا نحو القدمين. إنها روح شعورها بالهدوء والتفاؤل وببعض الكبرياء، الذي كانت قد سحقته سابقًا، حين كانت تظنّ أنها شخص يمتلك أفكارًا غريبة لا تتناسب مع أفكار الآخرين ولا مع حياتهم التي يمضونها على كوكب الأرض. شعورها هذا بالتوحّد كان غالبًا ما يزرع فيها القلق، فتشحب بشرتها وتتهدّل عيناها، يتشعّث شعرها. كانت تعرف من هذه العلامات أنها في حالة اكتئاب، ولا بدّ من زيارة للطبيعة، الأم كما كان يحلو لها تسميتها ووصفها.
نظرت أسفل الجسر، كان ضوء النهار قد خفت، لكن الرؤية ما زالت ممكنة مع قليل من الغشاوة.
كان الوادي عميقًا. قرأت كثيرًا عن منتحرين رموا بأجسادهم من فوقه، فقبعوا مهشّمين بعنف فوق صخور واديه. تتمكن الغربان من بعض جثثهم قبل أن يتبرّع أحدهم بانتشالها ودفنها. قرأت عن الانتحار كثيرًا، لكنها لا تشعر في هذه اللحظة بما كان يشعر به المنتحرون في اللحظات الأخيرة قبل أن يرموا بأنفسهم. ذاك الشعور بأن الوقت الفائت قد كان كافيًا لوضع حد له، وأن لا قيمة للوقت القادم. لم يكن هذا ما تشعر به أبدًا.
"إذاً لم يحن الوقت بعد"، تمتمت بينما ابتسامة رشيقة تعلو أسنانها البيضاء المبلّلة بريقها اللامع.
وضعت يديها في جيب بلوزتها، وقفلت عائدة نحو الكوخ الخشبي، الذي استأجرته هذا الصباح ليومين، أرادت أن تكون مع نفسها خلالهما، على ما كانت تحب أن تصف وحدتها.
حين بلعت ريقها للمرة الأولى هذا الصباح، دخل معه قليل من رغوة معجون الأسنان. اقتنصت فرحة قصيرة بطعمه السكري النعناعي المنعش، لكنها تذكرت أنه يجب عدم بلعه. ابتسمت بينما الرغوة تعلو أسنانها وشفتيها ونصف ذقنها، وفرشاة الأسنان في يدها تحركها جيئة وذهابًا كما لو أنها تكلّم جمهورًا تراه في المرآة، ثم قالت بصوت مسموع، "لن يؤثر قليل من السم في عمل الجسد"، هههه، ضحكت بصوت عالٍ بينما راحت تفرك أسنانها فركًا منتظمًا، مرة للجهة اليسرى من الفك الأسفل، ثم ترفع الفرشاة بسرعة ضرباتها المتتالية دخولًا وخروجًا نحو الجهة اليسرى من الفك الأعلى، ثم ناحية اليمين، الدورة ذاتها، ثم الأسنان العليا والسفلى من الداخل ومن الخارج. ما يقارب العشرين ضربة فرشاة تضرب أسنانها يوميًا صباحًا ومساء.
كيف يتعايش الفك الأعلى مع الأسفل؟ راحت تتساءل. واحد حر والآخر مستعبد للجمجمة، تخيّلت بينما تشطف فمها بالماء.

اقرأ أيضاً: اقتفاء أثر لفادي طفيلي؛ سيرة حيّ من خلال جثة

كان الهواء في الخارج قد انسحب من الأزقة والشوارع كما لو أنه لم يمرّ من هنا أبدًا. كل شيء ساكن كجثث مسجّاةٍ في أرضٍ قفرٍ وبعيدة عن المعركة. حتى الغيوم كانت ثابتة في مكانها كأنها تلوينٌ نزقٌ ملتصق على أزرق السماء.
*****
أشعلت سيجارة بينما كانت تدور في المطبخ. نظرت إلى قنينة الويسكي نصف الفارغة. نفثت نفثة عالية في الفضاء، ثم فتحت القنينة، صبّت القليل في كأس صغير، ثم رفعت القنينة نحو فمها، جرعت جرعة طويلة. أقفلتها ثم مجّت مجّة أخرى من سيجارتها، بينما عينيها على صورة ميكي وميني ماوس الملصوقة على باب البراد، يشبكان ساعديهما وتخرج من فمهما نوتات موسيقية بشكل خطٍ ملتوٍ يرتفع إلى الأعلى كما لو أنه من البخار، تبديهما مسروران، لا هموم تعكّر صفو حياتهما. ذكّرتها تلك الصورة بأيام بعيدة جدًا في مطبخ أمها في القرية. مرّت كأنها ثوانٍ قليلة، قبل أن تشير بيدها ما يدل على أنها غير آبهة. رمت بجسدها على كنبة الصالون الطويلة والمريحة. وفكرت بالكنبات وحاولت أن تفكك أصلها وسبب هذه الأهمية التي تكتسيها في حياة البشر. الكنبة التي قال عنها سيوران "هذا المسؤول الكبير، متعهّد روحنا".
الذاكرة عضلة، يمكن تمرينها كأي عضلة أخرى، أو نتركها خاملة وتعتاد على الخمول إلى أن يتعطل عملها. إنها عضلة من لحم وخلايا وشرايين، إذا قطعنا عنها الأوكسيجين ستموت. هذا كان رأيها حين كانت تحاول تبرير قدرتها على النسيان وعدم تذكّر الأحداث والخطأ في ترتيبها زمنيًا، وعدم الربط بينها كي تتحول إلى مسار حياة، بل الاكتفاء بالنظر إليها على أنها أحداث تجري على حدة في حياة شخص آخر يسكن في جسدها الذي يستعمله ككاميرا تسجل الأحداث لا أكثر.
كان امتعاض كثيرين منها لفقدانها الذاكرة الطبيعية يدفعها إلى القلق على حالتها النفسية، هل يكون هذا مرضًا وعليها التخلّص منه؟ هل عليها ان تعتبر نفسها مجنونة؟
المساهمون