04 فبراير 2016
لبنان دائرة انتخابية واحدة
غرق لبنان في مأساة الطائفية قبل الاستقلال، بسبب تدخل الدول الأجنبية، وبسبب استعانة بعض قادة المذاهب بهذه الدول في الحماية، أو في مواجهة الخصوم المحليين. ولم يختلف لبنان عن غيره من البلدان العربية، من حيث إن العرب، في مناسبات كثيرة جداً، استعانوا بالأجانب ضد أبناء الوطن، وبعضهم يستنجد بالكيان الصهيوني، الآن، لينفذ كيده ضد دول عربية أو دول مجاورة. ولم يكن الاستعمار الفرنسي بعيداً عن سياسة فرق تسد، فعمل مع بريطانيا لتقسيم أرض الشام، وعمل، بعد ذلك، على تمزيق الشعب اللبناني، ووسّع من الفرقة بين طوائفه ومذاهبه. هناك في لبنان، الآن، حوالي 18 طائفة أو فرقة، وكل واحدة تسيطر على جغرافيا معينة، أو مجموعة من الناس يرون في أنفسهم أصحاب الحقيقة المطلقة. وإذا كان من الناس من يستفيد من طائفته، ويرى فيها آلية حمايته والدفاع عن مصالحه، فإن الشعب اللبناني، برمته، يئن من سوء الأداء الإداري، ومن الخصومات الداخلية التي تعطل أعمال الدولة على المستوى الآني وعلى المدى البعيد. يدفع شعب لبنان بأكمله ثمن حرص المذهبيين والطائفيين على مصالحهم.
تسمع وسائل الإعلام اللبنانية التابعة للطوائف والفئات السياسية الطائفية، وهي تكيل الاتهامات للطائفية، وتلعنها وتحملها مسؤولية ما آل إليه لبنان من نقص في الخدمات وانخفاض مستوى الدخل والتمزق الاجتماعي وانتشار النفايات... إلخ، لكننا نرى أن الجميع يتحصّن خلف الطائفية ويرى فيها مأمنه، ويرى أن خروجه من تحت عباءة قبيلته سيكشفه، أمنيا واجتماعيا واقتصاديا. لبنان ليست طائفيته سكانيا فقط، وإنما هي طائفية جغرافياً إلى حد بعيد، إذ نرى أن كل طائفة تجمعت، إلى حد ملحوظ، في منطقة جغرافية معينة. للسنة مناطقهم، وللموارنة ساحاتهم، وكذلك لأهل الشيعة وللروم والأرمن. ويمكّن هذا التوزيع الجغرافي ملوك الطوائف من مزيد من رقاب السكان، لأنه يمكّنهم من إحكام السيطرة الاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية على الناس، ويكبّلهم ويحولهم إلى أسرى النعم التي يمكن أن يقدمها ملك الطائفة، حزباً كان أو شخصاً أو جماعة للناس. يمسك ملوك الطوائف برقاب الناس على المستوى الشخصي، وهم يتحكّمون، إلى حد كبير، في المنح والمنع، وفي الزواج والطلاق، وفي الحرمان والبحبوحة... إلخ. إنهم لا يختلفون عن الأنظمة العربية التي تتحكم بمقدرات الناس ومستقبلهم ومصير أبنائهم.
وبسبب الجغرافيا والتجمعات السكانية، لا يمكن للدوائر الانتخابية أن تنتظم بصورة غير طائفية أو مذهبية، ومن غير المتوقع أن يتحرّر الناس، فجأة، من طوائفهم، ويقررون الانتخاب وفق قناعاتهم الوطنية. أغلب الناس ينتخبون وفق مصالحهم المرتبطة بالطائفية، وليس وفق المصلحة الوطنية، غير المعرّفة لبنانيا.
لا يبدو أن هناك وسيلة للتحرر من ملوك الطوائف والطائفية إلا تحويل لبنان إلى دائرة انتخابية واحدة، ليضطر اللبناني العبور من طائفته إلى مجمل الطوائف اللبنانية. لن يتحوّل اللبنانيون عن طوائفهم دفعة واحدة، ومن المتوقع أن ينتخبوا طائفياً، أيضاً، فيما لو أصبح لبنان دائرة واحدة، لكن اللبناني سيجد نفسه مجبورا لانتخاب أناس من غير طائفته، على الأقل في انتخابات المجلس البرلماني.
يسمح تحويل لبنان إلى دائرة انتخابية واحدة لمن يمقتون الطائفية ويرفضونها، لتشكيل قوائمهم الانتخابية، ومخاطبة الشعب اللبناني عنواناً مستقلاً طائفياً، يمكن أن يتجمع حوله الجمهور. من المتوقع أن تشكل كل طائفة قائمتها الخاصة، ومن المحتمل أن تتشكل قوائم طائفية تجمع أكثر من طائفة، لكن المستقلين طائفيا سيشكلون قائمتهم من كل لبنان، ولن يكون من بينهم من يتبنى الطائفية. فضلاً عن أن الدائرة الواحدة ستسمح بظهور شخصيات لبنانية جديدة غير طائفية، ما قد يؤهلها مستقبلا لتشكيل عناوين سياسية شخصية وحزبية جديدة، تتغذى على العناوين الطائفية. وإذا تحول لبنان إلى دائرة انتخابية واحدة، فإن ميزان العدالة سيستقيم، من حيث إنه لن يضيع أي صوت على أية جهة كانت. كل قائمة ستحصل على أصوات كل الذين صوّتوا لها من دون تلاعب، أو ضياع أصوات لسبب أو لآخر. والمهم أن الشعب اللبناني سيختبر تجربة جديدة، وهي أن هناك في الدولة من يفكّرون بطريقة غير طائفية، ولديهم الاستعداد أن ينشغلوا بهموم الوطن، بدل الانشغال بمصالح الطائفة، أو أهواء ملك الطائفة.
ليس من المتوقع أن تحصل قائمة غير طائفية على مقاعد برلمانية في بداية الأمر، بسبب ضعف الثقافة غير الطائفية في لبنان، وبسبب التحريض الواسع الذي سيشنه ملوك الطوائف عليها، لكن المسألة تراكمية. وحتى تتراكم الرؤى غير الطائفية، لا مفر من خوض التجربة بتعديل قانون الانتخابات اللبناني. لكن السؤال المطروح: هل يسمح ملوك الطوائف بتعديل قانون الانتخابات، أم هل سيستمرون باحتكار القرار اللبناني؟ هذا يعتمد على نشاط المواطن اللبناني في الشارع. لا يمكن أن يسلم ملوك الطوائف بالأمر بسهولة، لكن التضحيات من أجل لبنان ضرورية، ولا حرية للبنان، أو للعرب، مع وجود العقلية القبلية المتخلفة الحاكمة.