تواجه المفاوضات الجارية عن بُعد، بين وزراء المياه من مصر وإثيوبيا والسودان، عقبات كبيرة قبل ساعات من انتهاء الجولة الحالية الممتدة من 9 إلى 13 يونيو/ حزيران، إذ لم يتم حتى مساء أمس الخميس، الاتفاق على مجموعة من البنود الضرورية للمضي قدماً في التفاوض. أبرز هذه البنود، الدور المطلوب تحديداً من المراقبين الثلاثة الذين اتُّفق على الاستعانة بهم لتسهيل المفاوضات، إذ لا تزال إثيوبيا تصرّ على عدم مشاركة أيٍّ منهم، بما في ذلك الطرفان اللذان شاركت في اختيارهما، وهما جنوب أفريقيا ومفوضية الاتحاد الأوروبي، في صياغة الاتفاق النهائي على قواعد الملء والتشغيل. في المقابل، تتمسك مصر والسودان بالانطلاق من النصوص التي صاغتها وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، وتؤكدان أنها تعبّر عن نسبة تراوح بين 90 و100 في المائة مما اتُّفق عليه حتى يوم 21 فبراير/ شباط الماضي بين الأطراف الثلاثة في واشنطن، على أن يقتصر دور المراقبين حالياً على "تسهيل" المفاوضات بتقديم أفكار، أو البحث عن نقاط اتفاق يمكن البناء عليها، لا طرح صياغات جديدة.
وأصدرت إثيوبيا بياناً بعد انتهاء اجتماعات اليوم الثاني من الجولة، بدا رداً على البيان المصري الذي وصف المفاوضات بأنها "غير إيجابية ولم تسفر عن تحقيق شيء"، طالبت فيه بأن تكون وثيقة العمل الخاصة بالفرق الفنية والقانونية في الدول الثلاث يومي 9 و10 فبراير/ شباط الماضي هي أساس التفاوض، لا الاتفاقات التي توصلت إليها الدول الثلاث في واشنطن في 21 من الشهر ذاته. كذلك انتقدت إثيوبيا، في بيانها، لجوء مصر إلى مجلس الأمن، واصفة ذلك بأنه "خروج عن الشفافية وروح الشراكة وحسن النيات".
وكشف مصدر حكومي مصري مطلع على مجريات التفاوض، لـ"العربي الجديد"، أن الوفد الإثيوبي استغلّ وجود طرفين جديدين كمراقبين للعملية، ليعيد الحديث عن مسائل عدة أثارت غضب الوفدين المصري والسوداني، على حدّ سواء. واعتبر أن الاستراتيجية الإثيوبية في التفاوض قامت على الادعاء أن كلّ النقاط التي اتّفقت عليها الدول الثلاث تلبي المطالب المصرية فقط، ولا تخدم الخطة الإثيوبية للتنمية.
وزعم الوفد الإثيوبي، الذي يرأسه وزير المياه والطاقة سيليشي بيكيلي، والذي يعتبر أبرز المتشددين ضد مصر في حكومة بلاده، أن أديس أبابا قدمت العديد من التنازلات، بداية من قبول خطة ملء طويلة الأمد، بدلاً من الملء الكامل خلال ثلاث أو أربع سنوات فقط، وكذلك قبول أن تكون المرحلة الأولى من الملء بواقع 4.9 مليارات متر مكعب فقط. وادعى الوفد أن إثيوبيا كانت تملك في ظلّ زيادة منسوب الفيضان هذه السنين أن تملأ أكثر من 6 مليارات في العام الأول فقط 2020-2021، وزعم أنها أعادت تصميم أجزاء من السدّ وتخطيط عدد التوربينات والفتحات وأماكنها بناءً على الملاحظات المصرية، ووفقاً لاتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث عام 2015.
وتحدّث الوفد الإثيوبي في اليومين الأول والثاني من المفاوضات، عن حجم إهدار مصر لمياه النيل، الأمر الذي يجد صدىً لدى بعض الأطراف المراقبة داخل المفاوضات، وكذلك الدول التي تراقب المفاوضات من الخارج. ولذلك كانت مصر متحضرة بتقريرٍ عُمِّم على الدول ذات الصلة والمراقبين، يفيد تحقيقها معدلات استفادة مرتفعة بنسبة 90 في المائة، فضلاً عن تعظيم اعتمادها في السنوات الثلاث الأخيرة على إعادة تدوير المياه المستخدمة سلفاً، مع التركيز على المشروعات التي تركز عليها الدولة حالياً وتخصص لها مليارات الجنيهات لتبطين الترع والمصارف وتعظيم الاستفادة من المياه الجوفية وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي.
وذكرت المصادر أن المحادثات أمس الخميس تعرضت لبعض النقاط الموضوعية الخاصة بقواعد الملء والتشغيل، إذ عرض السودان بعض الصياغات الوسيطة في ثلاث نقاط أساسية من بين 13 نقطة طرحتها إثيوبيا في مسودة الاتفاق المقترحة منها.
وتضمنت المسودة الإثيوبية أيضاً العودة عمّا اتُّفق عليه خلال جولات واشنطن، بأنها ستنتهي من تشغيل كلّ توربينات الطاقة الكهرومائية اللازمة لتشغيل السد في الإنتاج بكامل طاقته خلال عامين، وبإضافة هذا الاتفاق إلى اتفاق آخر يتضمن السماح بتمرير 37 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف، فإن هذا ينتج منه تمكن إثيوبيا من إنتاج الكهرباء بقوة تتجاوز 80 في المائة من القوة الإجمالية خلال عامين أو ثلاثة.
وبحسب المصدر المصري، تزعم إثيوبيا أن تمرير هذه الكمية سيصل بمنسوب البحيرة إلى أقل من 595 متراً، وبالتالي فهي ستفقد إمكانية التوليد المستديم وغير المنقطع من الكهرباء لمدة 7 سنوات على الأقل. لكن المصفوفات المصرية والسودانية ترى أن تمرير هذه الكمية من جسم السد، حتى في أسوأ أحوال الجفاف، ستبقيه ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة المطلوبة.
ونفى المصدر أن تكون الطلبات المصرية ستؤدي إلى تخفيض منسوب المياه في البحيرة أقل من 595 متراً، موضحاً أن كل التدابير التي اتُّفق عليها في واشنطن تبقي منسوب المياه في أسوأ الأحوال، ولو توافرت كلّ حالات الاستثناء من جفاف وتمرير لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً بأن نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار.
وسبق أن طالبت مصر بوضع جدول زمني محكم للمفاوضات الفنية الحالية، وقالت في بيان رسمي الثلاثاء الماضي صدر عن مجلس الأمن القومي برئاسة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، إن "مصر تؤكد موقفها المبدئي للاستعداد الدائم للتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحقق مصالح مصر وإثيوبيا والسودان، وهذه الدعوة قد جاءت متأخرة بعد 3 أسابيع منذ إطلاقها، وهو الأمر الذي يحتم تحديد إطار زمني محكم لإجراء المفاوضات والانتهاء منها، وذلك منعاً لأن تصبح أداة جديدة للمماطلة والتنصل من الالتزامات الواردة بإعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث سنة 2015".
وبحسب مصدر مصري مطلع، رفضت إثيوبيا استمرار أداء الولايات المتحدة دور الرقابة أو الوساطة في المفاوضات، بينما كانت مصر متحفظة على أن تؤدي الدور مفوضية الاتحاد الأوروبي. وأدت المفاوضات السياسية بين الدول الثلاث إلى اختيار مراقب بواسطة كل طرف، على أن يقتصر دور الأطراف على المراقبة، ولا يمتد إلى الوساطة، كذلك استُبعد اشتراك البنك الدولي بناءً على طلب إثيوبيا، واستُبعدَت مفوضية الاتحاد الأفريقي بناءً على التحفظ المصري السابق عليها.
وصباح الاثنين الماضي، قال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في رسالة تحدٍّ لمصر والسودان ومطالبتهما بالاتفاق على قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الأول للسد: "سيُملأ خزان السد بكمية 4.9 مليارات متر مكعب من الماء في موسم الأمطار المقبل" الذي يبدأ في يوليو/ تموز المقبل. وقارن أحمد بين بلاده ومصر، فذكر أن "استكمال المشروع يضمن الحقوق الأساسية لإثيوبيا مثل مصر، فالكهرباء تصل هناك إلى 98 في المائة من السكان، بينما لدينا لا تصل الكهرباء ولا مياه نظيفة إلى 50 مليون إثيوبي، وبإنشاء السد ستزيد قدرة توليد الكهرباء بنسبة 50 في المائة، ما سيساهم في تطوير المناطق الريفية".
من جهة أخرى، تلقى النظام المصري أمس الخميس صدمة جديدة بشأن ملف سدّ النهضة، بعد دعوة داعية الحقوق المدنية الأميركي جيسي جاكسون لمجموعة النواب الأميركيين من أصل أفريقي في الكونغرس، إلى مساندة وجهة نظر إثيوبيا بخصوص قضية السد. وتأتي خطورة تلك الخطوة لكون جاكسون شخصية ذات ثقل لدى الأميركيين من أصل أفريقي، وداخل الحزب الديمقراطي، وكان دائماً من أشدّ المؤيدين للحقوق العربية، كما كانت له صلات قوية بمصر، فكان إحدى الشخصيات القليلة التي منحتها جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية (عام 1989).
وتضمن الخطاب الذي بعثه جاكسون لتعبئة النواب السود في الكونغرس لمساندة الموقف الإثيوبي بشأن سد النهضة، العديد من النقاط ذات الخطورة على القاهرة، حيث حمل تأكيدات لتعرض إثيوبيا ودول منابع النيل للاضطهاد، وهي تستحق مساندة النواب من أصول أفريقية في مواجهة دولتين عربيتين في مصب النهر، هما مصر والسودان. واستخدم الخطاب المفردات والدفوع الإثيوبية ذاتها في الإشارة إلى مصر، لكونها تسعى إلى حرمان إثيوبيا حقها في النهر، وأن ذلك امتداد للسياسات الاستعمارية. وتضمن أيضاً انتقادات لاذعة لدور إدارة ترامب في التوسط في ملف سد النهضة، وحمل اتهاماً واضحاً لوزارة الخزانة الأميركية التي ترعى المفاوضات بالتحيز للموقف المصري، وأنها والبنك الدولي يضغطان على إثيوبيا لتوقيع الاتفاق، وأن دورهما يجب أن يتسم بالحياد. وتضمن الخطاب دعوة صريحة لكتلة الكونغرس من النواب السود وقادة الحقوق المدنيين الأميركيين، بالوقوف إلى جانب الحكومة الإثيوبية.