مفتاح العودة

مفتاح العودة

16 مايو 2014

لوحة على جدار في مخيم قلندية (مايو 2014 أ.ف.ب)

+ الخط -
ليس من المبالغة في شيء تأكيد أن الشعب الفلسطيني تعرّض لأكبر ظلم في تاريخنا العربي المعاصر. وهو ظُلم متعدّد، من الدول الاستعمارية الكبرى التي صنعت الكيان الصهيوني الغاصب، وأيضاً، من الإخوان والجيران العرب، الذين لم يتفهّموا جيِّداً حجم المأساة التي تعرَّض لها هذا الشعب، ولا يزال، منذ 66 عاماً.
وإذا كان اليهود يصرخون أن المحرقة النازية أكبر اختبار لهم، ودفعت مفكرين ومبدعين كثيرين إلى القول إنه لا يمكن أن يُكتَبَ شِعرٌ بعد "أوشفيتز"، ما يعني، تحديداً، أن الشعر الذي ظهر بعد المحرَقة شِعرٌ آخَر مختلف، فإن النكبة الفلسطينية لا تزال تمثّل الجرح النازف واللحظة المأساوية في التاريخ العربي المعاصر، وجعلت شعرنا وأدبنا بعدها مختلفاً بالتأكيد.
وعلى الرغم من كل ما كتبناه، فإن النكبة لم تجد الصدى اللازم لها، ولم يتم تمثُّلها بما تستحقّ. نستعيدها للذكرى، وسرعان ما ننساها في زحمة الهموم اليومية، فيعود كلٌ منّا إلى أنانياته الشخصية. ولكن نتائج هذه الكارثة الكبرى تستعصي على الوصف والحصر، لأنها تعني، في حقيقة الأمر، كل المآسي التي حلّت بهذا الشعب العربي منذ 1948، وما تلاه، إلى يومنا هذا، في ألفيتنا الثالثة هذه، من مجازر وإبادات وتقتيل وتهجير وتدمير وسجن وتطهير عرقي ومحاولات شطب شعبٍ بأكمله، وإلغائه، بشكل كلي، من التاريخ والجغرافيا.
النكبة الفلسطينية هي، أيضاً، تلخيصٌ عميقٌ للضمير الغربي المنافق الذي أراد تصحيح الظلم الذي تعرّض له اليهود من النازية والفاشية، فتسبّب في ظلم للشعب الفلسطيني، وحوّله إلى مجموعات من اللاجئين، ينتظرون فتات وكالات غوث اللاجئين.
الحصيلة الأولى للنكبة، لمَن لا يعرف، هي أكثر من 750 ألف مُهجَّر فلسطيني، وأكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية مدمرة أو ممسوحة من الوجود. والمأساة مستمرة، والندوب لا تنضب أبداً.
ولكن الشعب الفلسطيني لم يستسلم، ولم يَستَكِن أبداً. ولم تستطع الجِراحُ المفتوحة، ولا المآسي المستمرة، ولا الخذلان الدولي والعربي، ولا التيئيس، ولا حالات الإحباط التي تعرفها الشعوب العربية والإسلامية أن تُفقِده، ولو لَحظةً، الأملَ الدائم في العودة، وفي يومٍ يرفع فيه شبلٌ فلسطيني، أو زهرة فلسطينية، راية فلسطين على أسوار القدس، كما كان يحلو لياسر عرفات أن يقول.
"لستَ مهزوماً ما دُمتَ تُقاوِمُ"، يقول المثل، والشعب الفلسطيني لم ينهزم قط، في أقسى اللحظات الحالكة. حتى في لحظة خروج الفلسطينيين من بيروت عام 1982، استشرف عرفات التاريخ، وقال: "نخرج من بيروت إلى فلسطين".
هذا هو الشعب الفلسطيني الذي سيحوّل نكبته إلى انتصار. وما "الربيع العربي"، وما انتفاضات الشعوب العربية ضد استبداد قادتها الفاسدين وطغيانهم، إلا استلهاماً للدرس الفلسطيني الكبير.
ولا شك في أن الأمل الفلسطيني زرع آمالاً لدى شعوب العالم العربي والإسلامي، حتى تنفض عن كاهلها الظلم والهوان، وتبني مستقبلها الواعد. إنه دعوة لها حتى لا تحسّ بالإحباط، وتفقد الأمل في نجاح ثوراتها، لمجرد أن العالَم، وخصوصاً العالَم الغربي "الديموقراطي"، تخلّى عنها، وتركها تواجه مصيرها أمام أنظمتها القمعية والفاسدة.  
هذا هو الدرس الذي يقدمه الشعب الفلسطيني، شعب الجبّارين، لإخوانه العرب. إنه الوَعدُ بالنصر القادم، حتماً، مهما طالَ الزمن وكثرت التضحيات.
ولعلّ صورة الشيخ الفلسطيني، في أراضي الشتات العربي والغربي، وهو يُشهِر مفتاح بيته الذي هُجّر منه، وصودر منه، في عام النكبة في 1948، سلاحاً، أكبرُ دليل على أن الأمل الفلسطيني لا حدود له.