عن صديقي الذي يريد الانتحار

23 يناير 2023
+ الخط -

هاتفني صديقٌ لم أره مذ وقتٍ بعيد وقال: "أريد أن أراك اليوم، لا بد أن أراك اليوم، الأمر خطير". واتفقنا على اللقاء بمقهى أندريا، الملاصق لمديرية الأمن بالمنصورة، أمام النيل الذي لم يعد يظهر من المشّاية العلوية.
..
حزمت أمتعتي، وفتحت محفظتي وتأكدت من وجود بطاقتي الشخصية. ما المشكلة يا تُرى التي وقع فيها صديقي هذا، أيريد الانتحار؟ نعم، بالطبع يريد الانتحار. لكن لماذا في أندريا؟ ربما يريد أن ينتشر خبره بسرعة عن طريق مديرية الأمن. أفتح محفظتي مجدداً، أتأكد من بطاقتي الشخصية. موجودة الحمد لله. أفتح هاتفي، أخفي برنامج المفكرة وأسجل الخروج من "فيسبوك". لا لا، أمسح "فيسبوك" كله على بعضه. أمسح "تويتر"، أمسح "سناب شات"، لكني لا أملك حساباً على "سناب شات". مش مهم، أحذفه على كل حال.
..
وصلت إلى باب المقهى مبكراً، نظرت إلى ساعتي، سأنتظره نصف ساعة، لكن شآبيب المطر داعبت وجهي. ترى لماذا قرر صديقي أن ينتحر اليوم؟!
أضطر لدخول المقهى، متى امتلأ أندريا بكل هؤلاء "الأندر إيدج". لا أعلم، أسير بهدوء فأجلس بالركن الأيمن المُطل على الشارع، أرى نهايات كوبري طلخا من مكاني، طلخا سيتي هاها. أتأمل المكان حولي، مقاعد عتيقة خشبية، ونوافذ بنية، تضربها حبات المطر فتصدر صوتاً كنقر الحمام إذ يأكل الذرة، تشعر أنك هنا في آلة زمنٍ أخذتك لمئة عامٍ مضت، كل شيء صنعته يدُ الإنسان لا الماكينات. حتى الزجاج ضبابي، بالكاد ترى ما خلفه. والمبنى كله عتيق، ثابتٌ بمكانه، حتى حين اهتزت المنصورة كلها بانفجار مديرية الأمن.
..
جاءني النادل القصير النحيف ذو الوجه الداكن كالقهوة. له شارب متناثر الشعر كأرضٍ فسد حصادها. يسألني بلجهة أسوانية عمّا أشرب، "قهوة مظبوط يا سيدي". ذكرني هذا النادل بعم عيسى. الأسواني الجميل الذي عرفته بوادي الصعايدة بإدفو. بالطبع أنت لا تعرف عمي عيسى، دعني أحكي لك حتى يأتي صديقي الذي يريد الانتحار.
..
عمي عيسى رجلٌ نادر، مثال حي لما قال أمل دنقل عن نفسه: "فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه، يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة والأوجه الغائبة" في الحقيقة لو عرضوا عليك أن تبيع نصف عمرك مقابل أن تتعرف عليه، ستختار نصف عمرك طبعاً، فهو رجلٌ مقطوع، لا نسب له في وادي الصعادية كله، بل إدفو كلها، قال لي إنه جاء من السودان إلى نجع حمادي، وجاء وادي الصعايدة من نجع حمادي أخيراً، بعد أن قالت الحكومة سنسلم الناس أراضي في الصحراء وسط الجبل والعقارب ليستصلحوها.

لكن عمي عيسى ترك كل الأراضي ليذهب إلى جبل الكويت. الكويت اسم قرية بوادي الصعايدة، سموها كذلك "لأن فيها فلوس زي الرز"، لماذا؟ سألت عمي عيسى عن السبب، لماذا فيها فلوس كالرز؟ فحكى لي عن جبل الذهب، وأخبرني عن مغامرته فيه، حيث وجد خيط ذهب في قلب الجبل، ومشى يتتبعه، سيصير أغنى أبناء السودان، سيصير أغنى ساكني وادي الصعايدة، ورسم في ذهنه المال و"الزوجة إلي على حق"، وأطياناً سُخّر لها الرِق، ومذياعاً يغني للست كل خميس، ورجالاً بشنباتٍ عريضة يأتونه بكل ما كبُر ودق. لكن كل ذلك اندهس تحت قدم المعلم، ساكن الجبل، حاكم المكان وأقوى من فيه.

قال لي عمي عيسى مرتجفاً: "نظر المعلم بعيني يا ضكتور وقال، دير عيونك عني وارمح، تبص وراك، تنطخ". وصل صديقي الذي يريد الانتحار أخيراً، سأكمل لكم حكاية عمي عيسى في يومٍ آخر.
‏..
‏صار الجو بارداً، وصارت السماء رمادية، كأن المنصورة كلها وقعت في صحن ماء. لكن أكواب القهوة الساخنة التي جاء بها النادل، خففت بعضاً من ذلك.. أخبرني يا بني، ماذا حدث؟ تريد الانتحار؟ بالطبع تريد الانتحار. أنا قلت مليون مرّة إنك تفكر في الانتحار. ابتسم وأسند ظهره للوراء وقال، لا يا سيدي، كل ما في الأمر أنّ "مدير الإدارة ابن الـ**** أكل علي مئة جنيه من المرتب، ومش عارف أعمل له إيه. وأنت واحشني برضو ودا المهم".

‏المهم، شربنا القهوة، وتحادثنا طويلاً، حتى مرّ علينا ستة مخبرين بشوارب أعرض من السيجار، وانتهى كل الكلام، وألقينا السلام، وبينما أحاول الحساب، أقسم صديقي عليّ ألّا أحاسب، لماذا تتشنج يا أخي، "حاسب يا حبيبي، حاسب كل مرة فأنت لا تعاني من غلو البامبرز ولا السودو كريم". يُخرج من جيبه مئة جنيه كاملة فيعطيها النادل ويمضي ولا يطلب الباقي. لكنّي وقبل خروجي من المقهى، سألت النادل عن اسمه، فقال لي بلهجته المحببة: "محمد عيسى يا باشا".

دلالات

أحمد لطفي
أحمد لطفي
كاتب وطبيب مصري من مواليد محافظة الشرقية. له مجموعة قصصية منشورة باسم "الوحل والنجوم" منشورة عن دار عصير الكتب. وقد ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، عن فئة المؤلف الشاب. يعرّف عن نفسه بمقولة "أنا ملك الصدى، لا عرش لي إلا الهوامش".