حكاية جديدة للبعث والحساب

حكاية جديدة للبعث والحساب

13 يناير 2023
+ الخط -

انتهت أيام ديسمبر سريعًا، أنهيت أيام عملي والحمد لله. سأنزل من إدفو (مدينة في مصر)، لأرجع بلدي أخيرًا، و"على بلد المحبوب وديني، زاد وجدي والبعد كاويني والله".

حزمت أمتعتي، وتجهزت لسفري، وما أحلى يوم النزول، يطير قلبي كصقرٍ بري يفرّ من قفص. يمكنني القول إنه قفصٌ من ذهب كقفص الزبّاء ملكة تدمر. المهم أنّ يوم النزول حلو، وما زاد حلاوته هذه المرّة، أنّي صادفت رجلًا وحفيده، جعلا يومي حكاية الحكايات. تريدون معرفة قصّة هذا الرجل الذي اخترع أسطورة جديدة للبعث والحساب؟ لنحكيها من أوّلها إذن.

خرجت من الوحدة الصحية عند الظهر تقريبًا، أحمل حقيبتي الثقيلة على ظهري. كلّ شيء ساكن سكونًا غريبًا. الناس هنا يقدّسون البرد كما الحر، فلا يخرج أحدٌ من بيته رغم وضح النهار. الحمد لله، أنْ غارَ الحر في داهية. السفر في الحر ثاني أسوأ شيء في الكون، بعد الشيطان مباشرةً. سفر البرد أجمل، يذكرني سفر البرد برحلات الدكتور محمد المخزنجي للاتحاد السوفييتي، أحنّ لشيءٍ من قصصه، فأضع بأذني السماعات، وأبدأ في سماع قصة اسمها "حقيبة بلون الشفق والرمل" بصوت الأستاذ أحمد الديب. هوّنت عليّ القصة بعض الطريق، أمشي طويلًا كالعادة، حتى أصل إلى الطريق الإسفلتي. عليّ أن أنتظر لساعة أو ساعتين إن كنت حسن الحظ حتى تأتي سيارة أو تروسيكل. أكمل سماع القصة، يحكي الدكتور محمد حكايته الساحرة، عن ديكٍ باض بيضة ذهبية في يده اليمنى، وعن حقيبة تشيكوف التي تمنّى مثلها بالضبط. رغم اختلاف القارات، رغم اختلاف الأزمنة، يرى شخصان في نفس الحقيبة حلمًا مرجوًا، بيضة ذهبية تجتمع فيها الأحلام. لكن ما علاقة ذلك بالرجل المسن الذي اخترع أسطورة جديدة للبعث والحساب؟

ركبت المواصلة الأولى، رأيت رجلًا يرتدي جلبابًا زيتي اللون، فسجلت في مفكرتي، جلباب زيتي، لون جديد للون جلابيب الرجال هنا، رأيت قبل ذلك الأصفر والأحمر والبني والأسمر، والسمني والرصاصي والأخضر. يحبون الألوان وأنا أحبهم. سمعتهم في العربة يتحدثون عن حرامية يسرقون كابلات الكهرباء، أمسكوا بالحرامية الذين قالوا: "نسرق الحكومة ولا نسرق البيوت!" .

‏أركب المواصلة الثانية، يمرّ عليّ موتوسيكل بطيء، عليه رجلٌ يرتدي جلبابًا رصاصي اللون، وعلى رأسه شال أبيض وطاقية بنية، ومن خلفة فتى صغير، بالكاد أكمل العاشرة، يرتدي نفس الجلباب والشال والطاقية، كأنّه نسخة مصغرة من جدّه، منظره يثير الابتسام، ما ألطفه وهو يضع يده في جيب الجلباب الصغير والشال يلف رأسه ورقبته.

سمعتهم في العربة يتحدثون عن حرامية يسرقون كابلات الكهرباء أمسكوا بالحرامية الذين قالوا: "نسرق الحكومة ولا نسرق البيوت!" 


‏غاب الرجل وحفيده عنّا، وتحرّكنا للمحطة أخيرًا. سيأتي القطار المكيّف، وسيأخذني إلى القاهرة، يا سلام. لكن القطار سيأتي بعد ثلاث ساعات! أين أذهب؟ ما الخيارات؟ أذهب لمطعم الشواء عند المحطة، أم أذهب لمطعم البروست أمامه؟ آه، الصراع الحضاري لا ينتهي حتى هنا بإدفو. أم أذهب لمعبد حورس فأتسلّى برؤية مقياس النيل الفرعوني الذي ما زال يعمل؟

‏أترك كلّ هذا لأجلس على مقهى بين المحطة والنيل، تستطيع أن ترى النيل من مكانك، فتسمع بأذنك "الليلة بالليل نمشي شارع النيل، أنا وأنت سوا" فأفتح صورة لابنتي "كندة" وأغني: "أنت السكر"، ترى أتتذكرني كندة حين أعود؟ "القهوة المظبوط يا أبويا بعد إذنك".

‏المقهى بسيط، كراسي خشبية قديمة، ومناضد مبتلة، ورجلٌ مسنٌ يقف خلف بار مبلّط ببلاط لامع، يستقبل الطلبات ويهشّ الذباب بمنشّة مصنوعة من شكارة قديمة. ومنتظر والقطار حولي، كلٌ بجلبابٍ شكل، الجلابيب هنا تستحق الدراسة حقًا، هي الزي الرسمي للناس هنا، لا قميص ولا بنطال. وأنا أنتظر القطار، في الوقت الذي يخرج فيه فتى من المقهى، وعلى كتفه برّاد كبير مليء بالشاي، ليبيعه خلال خمس دقائق فقط، هي مدة وقوف القطار بالمحطة. انتظرت بلا أمل، حتى جاء الرجل ذا الموتسيكل ومعه حفيده الجميل.

جلس الرجل جواري وأجلس الفتى على كرسي جواره. "اتنين سحلب يا أخي". كيف سيشرب هذا الفتى السحلب! وضع الرجل عصاه على المنضدة أمامه، عصا بنية قديمة، ذات رأسٍ أضخم بها زوائد خشبية أنيقة، ومنقوشٌ عليها نقش ألوانٍ وأرابيسك، أعطت للرجل مع عباءته هيبة لا تتحقّق للواء في الجيش.
‏نظر الرجل للفتى الصغير الذي بدأ يتكلم:  "عاوز اشتري موتسيكل يا جدي، عاوز يكون معايا فلوس كَتير".

أسند الجد ظهره للوراء حتى بان الصديري، وحكى حكايته التي بدأها بـ:"يا ولد، الفلوس الكتير تفسد، وحسابها تقيل"، ثم حكى عن رجل غني، جاء بلدهم منذ خمسين عاماً.

‏يُحكى أنّ رجلًا فاحش الثراء، قيل إنه أخو الملك في الرضاعة، جاء البلد فجمع الناس كلهم، وقال "كل واحد يطلب ما يريد من فلوس، وسأعطيها له، مقابل شرط واحد، أن تأتوني بعد سنة لتخبروني ماذا فعلتم وإلّا تردّون الفلوس."

‏فاستجاب الناس وأقبلوا، من أخذ مليوناً ومن أخذ خمسيناً ومن اكتفى بقرشين.

بعد سنة، جاءه الناس، ففوجئوا بأرضٍ من الصفيح تحتها جمرٌ من جهنم، وحولها، رجالٌ كثيرون ببنادق طويلة وهراوات ضخمة، وكلّ شخص يتقدّم، تنكوي قدمه قبل أن يتكلم. لكنّه مضطر وإلّا سيرد الفلوس، أو يتحمل ما يجري له. فمن أخذ المليون احترق، ومن أخذ الخمسين انكوى، حتى تقدم الرجل الذي أخذ قرشين، وقال في خِفّة: "قرش عيش وقرش فول"، ونزل هاربًا والناس يضحكون.

‏وجاء القطار، فتركت الرجل والفتى الذي فهم درس الجد فخاف، وركبت عائدًا إلى كندة.

أحمد لطفي
أحمد لطفي
كاتب وطبيب مصري من مواليد محافظة الشرقية. له مجموعة قصصية منشورة باسم "الوحل والنجوم" منشورة عن دار عصير الكتب. وقد ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، عن فئة المؤلف الشاب. يعرّف عن نفسه بمقولة "أنا ملك الصدى، لا عرش لي إلا الهوامش".