لماذا لم ننتصر في معركتنا ضد السويد بعد؟
لا أتصوّر مدى الألم الذي قد يُصيب أمّا، وهي تشاهد ابنتها تحتضر أمام عينيها وتتسرّب روحها ببطء شديد بعد أن فقدت القدرة على البكاء وجفّت الدموع في مقلتيها، قبل أن يجفّ الدم في عروقها. ربّما، قتل الحزن والكمد الأمّ قبل أن يلحقها الجوع والعطش بابنتها، هذا للأسف ما نشرته قنوات إخبارية عديدة من تقارير صحفية ومشاهد مروّعة منذ بضعة أيام عن مهاجرين أفارقة ألقت بهم السلطات التونسية على حدود بلادها مع ليبيا في الصحراء دون طعام أو شراب، فمات من مات منهم جوعاً وعطشاً، بينهم أطفال. وقد أنقذ حرس الحدود الليبي بعضا آخر، لكن خبراً كهذا لم يُشغل بال أغلب المتابعين، حيث كان الرائج أو "التريند" في نفس تلك الآونة ، هو إهانة "سيئ الذكر" للقرآن الكريم مرّة أخرى في العاصمة السويدية استوكهولم تحت حماية الشرطة أيضاً.
حقيقة أنا لا أفهم ما الأثر الذي يتوّقعه من يحرق كتاباً (أيّا كان) في عصرنا هذا!
ربّما، كان لهذا الفعل أثره عندما كانت كتب الفلاسفة الإغريق تُحرق من قبل خصومهم أو السلطات الدينية المناوئة لهم، فيضمنوا بذلك اندثار علمهم إلى الأبد. أو ربّما كان لإغراق التتار كتب مكتبة بغداد في نهر الفرات أثر بالغ في ضياع علم وفكر حضارةٍ دامت مئات السنين. لكن أن تُحرق نسخة من كتابٍ موجود منه مليارات النسخ الأخرى، سواء ورقية أو رقمية، فأيّ تأثير يكون لذلك الفعل السفيه، قبل أن يكون حقيرا؟
لم تتأخر الإجابة كثيراً، حيث اشتعلت السفارة السويدية في العراق بنيران المتظاهرين الغاضبين، تمّ على إثرها طرد السفيرة السويدية من الأراضي العراقية. كان ذلك هو أعنف ردود الأفعال بين الدول العربية والإسلامية الأخرى التي استدعت سفراء السويد في بلادها وسلمتهم مذكرات احتجاج على ذلك الفعل الشنيع، لكن هل استوعبت السلطات السويدية الدرس، وقرّرت أن تكفّ عن تلك الأعمال الاستفزازية؟
ما الأثر الذي يتوّقعه من يحرق كتاباً (أيّاً كان) في عصرنا هذا!
ربما ستُعرف الإجابة (إن لم تكن قد تيقنت منها حتى الآن) عندما يقوم نفس هذا الشخص أو شخص آخر بإهانة أحد المقدّسات مرّة أخرى تحت حماية الشرطة، أو عندما يُعاد نشر رسوم مسيئة للرسول الكريم، صلّى الله عليه وسلم، أو عندما ينشر أحدهم رسوماً كاريكاتورية، فيها إهانة للكعبة المشرفة أو الحجاب أو أيّا من الرموز الإسلامية.
استوقفتني في هذا الإطار عدّة معالم قد ترسم طريقاً للإجابة عن السؤال الذي طرحه عنوان هذا المقال.
أولها، هو تصويت أجرته إحدى القنوات الإسلامية الكبرى على "يوتيوب"، والتي يقترب عدد مشتركيها من المليون، شارك في هذا التصويت أكثر من 35 ألف شخص أجابوا عن سؤال "ما هي الدولة (الأكثر) عداوة للإسلام والمسلمين؟"، فكانت النسبة الكبرى التي تقارب النصف من نصيب السويد بعدها فرنسا، وجاءت الصين وروسيا في ذيل القائمة. ربّما، تنقلب القائمة رأسا على عقب إن كان "التريند" حينها هو اضطهاد السلطات الصينية للمسلمين من عرقية الإيغور، أو عندما تسلّط القنوات الفضائية والمؤثرون الإسلاميون والدعاة الضوء على حادث اقتحام قوات الشرطة الروسية لأحد المساجد بأحذيتهم كما وقع منذ عدّة أيام.
ثانيها، هو موافقة السلطات السويدية على طلب لاجئ سوري هناك بإحراق التوراة والإنجيل أمام السفارة الإسرائيلية، بيد أنّ الرجل الذي فشل في إثبات ازدواجية المعايير السويدية، تراجع عن هذا الأمر في النهاية مظهراً احترامه لكلّ الأديان!
حين نتيّقن من أنّ ظلم الناس جريمة لا يغفرها بيان استنكار لإهانة المقدسات، ساعتها لن يستطيع التلاعب بنا أو بأغلبنا صاحب هوى أو مصلحة
ثالثها، هو أنّ أبرز المتهمين الذين اعتقلتهم الشرطة العراقية بتهمة اقتحام السفارة السويدية وإحراقها كانوا من أنصار الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، والذي توّسط للإفراج عنهم وقد كان. ولا يُخفى على المطّلع الصراع الشيعي الذي كاد أن يتسبّب في حرب أهلية العام الماضي بين التيار الصدري والحشد الشعبي الذي انضوى (حارق القرآن) تحت لوائه وحارب معه من قبل.
أما آخرها، فهو الحديث الشريف الذي بيّن سبب تداعي الأمم على المسلمين واستهانتها بهم، إذ كان وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، أنكم حينها "غثاء كغثاء السيل" مجرّد رغاوٍ وفقاقيع تتلاعب بها الرياح والأهواء، يمنةً ويسرةً.
متى إذاً سننتصر في معركتنا ضد السويد أو غيرها؟
حين نكتسب بالعلم والوعي ثقلاً ووزناً ناتجاً في المقام الأول عن إيماننا بأنّ الإنسان (أيّ إنسان) مُكرّم من قبل الخالق عزّ وجل، وحين ندرك أنّ جريمة إلقاء الناس في الصحراء وتركهم للموت عند منزّل القرآن أكبر وأعظم من حرق القرآن، وحين نتيّقن من أنّ ظلم الناس جريمة لا يغفرها بيان استنكار لإهانة المقدسات، ساعتها لن يستطيع التلاعب بنا أو بأغلبنا صاحب هوى أو مصلحة من خلال إعلامه أو مؤثريه، وساعتها سندرك أنّ معركتنا لم تكن ضد السويد أو غيرها من الأساس، بل كانت ضد الجهل والضحالة والخفّة، وضد من يستخف بنا باسم الدين أو الوطن أو الأخلاق أو غير ذلك.