مشهديّةُ اللاجىء الفلسطيني في "قناع بلون السماء"

مشهديّةُ اللاجىء الفلسطيني في "قناع بلون السماء"

25 مايو 2024
+ الخط -

لستُ ناقداً أدبياً، ولا حتى ذوّاقة أدب، لكنّي محبّ لقراءةِ الأدب منذ الصغر. انقطعتُ عنه لسنواتٍ، وعدتُ إليه من بوابة كلاسيكيات الأدب العالمي، وأذكر أنّ الرواية الأولى بعد العودة كانت "البؤساء" للأديب الفرنسي فيكتور هيجو، ثم "الأم" للأديب الروسي مكسيم غوركي. لكن عندما بدأتُ بقراءةِ الأدب الفلسطيني، أصبحتُ في مكانٍ آخر، وكانت البداية مع روايات الأديبة المصرية رضوى عاشور "الطنطورية" و"ثلاثية غرناطة".

حفرَ الأدب الفلسطيني في نفسي عميقاً، ومن نتاجه، رواية الأسير الأديب باسم خندقجي "قناع بلون السماء"، والتي فازت قبل نحو شهر تقريباً بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر).

لقد استطاعَ خندقجي ابن نابلس، المحكوم بالسجنِ بثلاثةِ مؤبّدات، أن ينطلقَ حرّاً، بعيداً عن أسوار السجان الإسرائيلي، مع بطل روايته "نور"، اللاجىء الفلسطيني في إحدى مخيّمات رام الله. والده مناضل، اعتقله الاحتلال لعدّة سنوات، وعند خروجه، وجدَ رفاق السلاح، وقد عاشوا حياةَ الرخاء والبذخ، بينما هو، عاشَ حياةً هامشية، وعمل بائعاً للشاي والقهوة، ليعيلَ عائلته التي تخلّى عنها رفاقه بينما كان أسيراً.

لدى "نور" أحلام كثيرة، لكن حواجز الفقر، واللغة، والهُويّة، كانت عائقاً، بل سدّاً منيعاً أمامه. بمعنى آخر، أن تكون فقيراً، يعني أن تتأخر سنوات دراستك، وأن تقفَ في وجهك اللغة والهُويّة، ويعني أنك "مواطن" في دولةِ الاحتلال من الدرجة الثانية، فكيف بلاجىء ليس لديه هُويّة زرقاء؟

لم يستسلم نور للصعابِ التي واجهته، فعزيمته كانت عظيمةً، إذ أكملَ دراسته، وتخرّج من معهد الآثار الإسلامية في القدس، وإن كان متأخراً بسببِ الفقر. عمل في السياحة، في القدس، وكانت بوابته لذلك هيئته الأجنبية، أو بالأحرى ما يدل على أنّه "يهودي" جاء من أوروبا، حيث كان يطلق عليه الأطفال في المخيّم "سكناجي"، وهي محورة عن "أشكنازي"، وكذلك نجاحه في براعته باللغتين العبرية والإنكليزية اللتين كان يجيدهما بطلاقةٍ. أمّا نقطة التحوّل في المشهد، فهي حين اشترى جاكيت جلدية مستعملة من القدس التي كان يتسلّل إليها، فوجد فيها هويّة زرقاء باسم "أور شابيرا"، الأمر الذي ساعد الشيخ مرسي من القدس، وهو بمثابة الأخ الكبير أو الوالد له من القدس، أن يزوِّر له هويّة جديدة، بوضعِ صورته على تلك الهويّة.

أن تكون فقيراً، يعني أن تتأخر سنوات دراستك، وأن تقف في وجهك اللغة والهُويّة

كان هاجس "نور" أن يكتب روايةً عن مريم المجدلية، تلميذة السيد المسيح، وليتمكن من ذلك، عليه أن يصل إلى المراجع في المكتبات، وأن يبحث في الأطلال في فلسطين، لكن الوصول إلى تلك الأماكن أشبه بالمستحيل بهويّته الحاليةِ باعتباره لاجئاً. لكن الأبواب فُتِحت لاحقاً للاشتراك في بعثةِ تنقيب من معهد أولبرايت في القدس جنوب تل مجدو، لتجاوزه عوائق الشكل، واللغة، والهُويّة.

الرواية فيها الكثير للحديث عنه، لكن ما استوقفني بصفتي لاجئاً فلسطينياً، هو ما نعانيه، من تلك الحواجز، وإن كانت القضيّة ليس فيها تعميم، لكنها موجودة بكثرةٍ في مفاصلِ حياة اللاجىء ليس فقط في لبنان، بل في معظم دول اللجوء.

وكما يقولون بقياسٍ مع الفارق، فإنّ "نور" يعيشُ صراعاً مع محتلٍّ، سلب أرضه، وحاول بكلِّ الطرق طمسَ تاريخ أصحاب الأرض الأصليين، وغيّر أسماء القرى، وحوّل حياة الفلسطيني إلى جحيم، لكن الحواجز الثلاث، الفقر، واللغة، والهُويّة، هي أسباب انتقلت مع الفلسطيني إلى دول اللجوء.

في إحدى المقالات التي نشرتها سابقاً في العربي الجديد، في ملف خاص حول العنصرية عنونته "أشكال من العنصرية عايشتها في لبنان"، تحدّثت فيها عن تجربتي الشخصية لاجئاً فلسطينياً في لبنان، عن التنميطِ والصورة التي يفكر فيها البعض عن الفلسطيني، سواء من ناحية الشكل، أو حتى الطبقة الاجتماعية (من سكان المخيّم، أو من سكان المدن)، ووصولاً إلى الوضع المادي، في التعامل بعنصريةٍ مع الفلسطيني، فرواية الخندقجي عبر شخصية "نور" تتشابه في حرمانه من حقوقه بوصفه إنساناً، ممّا نعايشه بوصفنا فلسطينيين في دول اللجوء.

وفي كواليس ما بعد إعلان فوز خندقجي بجائزة "البوكر"، كان من اللافت ما كشفته السيدة مديرة دار الآداب، رنا إدريس،  في ندوةٍ عُقِدتْ في مخيّم مار الياس بدعوةٍ من دار الثقافة، حول ما تعرّض له الخندقجي بعد إعلان وصول روايته إلى لائحةِ القائمة القصيرة لجائزة بوكر، من استدعاء السجان الإسرائيلي له، وعزله إفرادياً، حتى اضطرت عائلته إلى دفعِ مبلغ مالي لإخراجه من العزل، لكن لما تمّ استدعاؤه مرةً ثانية عرف أنّه فاز بالجائزة، فناله التهديد بعزله إفرادياً بقدر ما يحوزُ من مال الجائزة، لكنهم لن يستطيعوا عزل الرواية لأنّها ستُترجم إلى سبع لغات.

رواية "قناع بلون السماء" تسجل الصراع الذي عاشه "نور" بين شخصية اللاجىء الفلسطيني وما يكتنزه من ميراث الأرض والناس في فلسطين، وبين "أور" الشخصية الصهيونية، لينتهي الصراع بكشفِ القناع عبر سماء إبراهيم، الشابة الفلسطينية المتمسِّكة بهُويّتها الفلسطينية الأصيلة، والتي انكشفت له كـ"مريم المجدلية" ممثلةً خلاصه.