"توق" لعزّة أبو ربعية.. اللوحة تنبثق من الرقص

10 يوليو 2022
"جنازة الفراشة" (المعرض)
+ الخط -

يُخبرنا صالح بركات، صاحب الدار التي تحمل اسمَه، والتي تعرض للسورية عزّة أبو ربعية، أنّ الفنّانة عانت السجن أثناء الانتفاضة الأخيرة، قبل أن تنتقل إلى بيروت، شأنها في ذلك شأن فنّانين سوريّين كُثر. أشار صالح إلى موضوع الفراشة الذي تريدُه الفنّانة عنواناً لمعرضها المستمرّ حتى 23 تمّوز/يوليو الجاري. الفراشة التي، بحسب ماتيلد أيوب في تقديمها للمعرض، موجودةٌ ليس فقط في لوحات المعرض، وإنّما في روحه وموازينه ورؤاه.

ما في معرض "توْق" من توازُنات هشّة، ومن طلاقة، ومن حرية، هي فكرة الطيران وخفّته وسلاسته وطفوليّته وتكاوينه. لم تذكر ماتيلد أيوب صراحة سجن عزّة، وإن بدا أنّ المعرض نوعٌ من الحلم بالإفلات والفضاء الحرّ، بحيث يبدو أنّه ارتداد على السجن، و"توق" للطيران بعيداً عنه وبعده. مع ذلك، فإن المعرض يكاد يكون غناءً للحرية، والتوقُ يَسِم لعبتَه، وتكاوينُه قد تكون من الحلم بها وامتداحها.

الصورة
عزة أبو ربعية - رقصة العودة إلى البيت - القسم الثقافي
"رقصة العودة إلى الوطن" (من المعرض)

لعلّ محفورات عزّة التي تسبق زمان المعرض، وربما تسبق فكرته، تشيرُ، في صرامتها وقوّتها التعبيرية وانتظامها القاسي، أكثر إلى رؤية سجن، فيما يبدو المعرض، غناء الانعتاق منه. قد تكون "الفراشة" احتفالاً بالخروج، لكنّنا هكذا سنجعل للمعرض كلّه حكاية واحدة. يدعونا إلى ذلك الجوُّ الذي يغمر المعرض، ويناسب بين لوحاته، التي تبدو كأنّها تتواصل فيما بينها وتتكامل، فيما يشبه الرواية ذاتها، بل واللحن ذاته، إن لم نقُل الرقصة ذاتها.

يحيل تركيب اللوحة وتداخُل أشكالها إلى لعبة الطيران

ليس في معرض عزّة ألوان وخطوط، بالريشة أو بالقلم. إنّه، بدون أن تعلن ذلك أو تعتدّ به، نوع من الكولاج أو الاستجماع، لما هو في أصله نسيج وقماش وخيطان حقيقية. هذا ما يبدو سرّ اللوحة، الذي تنطوي عليه وتكاد تكتمه. أن تكون اللوحة قماشاً وخيطاناً، ليس هذا أوّل ما يتبادر إلى المُشاهد. عزّة لا تلجأ إلى هذه الموادّ الجديدة، إلّا لتبني منها لوحة، ولتبدو هذه وكأنّها غائبة عن أصولها، فالخيط حين يكون خطّاً يكون حقّاً، وبأكثر ما يمكن، خطّاً حقيقياً. إنّه يُحافظ على إيحاء الخطّ وحضوره وسرديّته، كذلك الأمر حين يتعلّق باللون. نلاحظ، على نحو ما، ما قد تحوّل بالكولاج الموصول من مادّة قماش إلى لون، لكنّنا لا نتعرّف بسهولة على أصله أو مادّته الأصلية. إنه يغدو لوناً نافراً، لكنه يبدو في الحقيقة لوناً، ولا نستطيع بسهولة أن نتميّز حقيقته الأُولى.

هكذا نقف أمام الفراشة، التي نرى طابعها أو ظلَّها أو إيحاءها في لوحات كثيرة، لكن ما يبقى من الفراشة في اللّوحات غير ذلك. ما يبقى من الفراشة ليس فقط شكلها أو جناحيها، حتى حين تكون اللوحة بهما، أو حين تبدو لعبتهما. إذ أنّ الفراشة، إذا شئنا أن نستعيدها في كلّ اللوحات، وفي المعرض بتمامه، هي أكثر من جناحين وأكثر من شكل. ما ترسمه عزّة هو الطيران، ونحن حين نشاهد تركيب اللوحة وتداخُل أشكالها وخطوطها، نفهم أنّ ما نراه هو لعبة الطيران، ونظامها الحرّ، وإيقاعاتها وإيحاءها. أي أنّ ما نراه من الفراشة، هو ما يمكن أن يكون مفهومها وفكرتها، ما يمكن أن يكون رقصتها. أقف عند كلمة "رقصة"، في ظنّي أنّ هذه الكلمة تكاد تستوعب اللوحة بكاملها.

الصورة
عزة أبو ربعية - مغامرة - القسم الثقافي
"مغامرة" (من المعرض)

ما نجده في اللوحة هو الأشكال التي تبدو وكأنها تولّدت من حركة اللوحة الدقيقة المتهاوية، من تداخل أشكالها، بقدر تكون فيه أقرب إلى إيقاع يكاد يتوقّف، وما يزال يجرّ نفسه. مع ذلك، فإننا أمام رقصة شبه متأرجحة بين الانتظام والمحاكاة، والانتقال الصعب أو المهدّد بالتلاشي. من ذلك كلّه نفهم أنّ الرقصة هي اللوحة، وهي رسالتُها ولعبتها وفنّها. الرقصة هي الانعتاق، لكنّ المحروس والملاحظ والعارم، والمنشغل بنفسه، والمقاوم لذاته. إنّه الانعتاق، لكنْ ليس الانعتاق الكامل ولا النهائي. إنّه حركة الحرية وحلمها، بدون أن يكونها تماماً. هكذا تتواصل اللوحات، في ما يشبه الحكاية. تنعتق الفراشة، وتتولّد منها فراشة جديدة، فيعود المعرض كلّه من رقصها وحكايتها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون