حدائق العاشق (3): صوفيا

حدائق العاشق (3): صوفيا

17 يونيو 2023
أحمد حجيري/ تونس
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


أية أرضٍ عاصفة تجوب الآن
يا طفلي الوحيد 
صيّاد اليعاسيب؟

(تشيو)

هُنا يلمس الإنسانُ حافةَ الميلاد بيدٍ وحافةَ الموت باليدِ الأُخرى، ليس لأن أشجار الكستناء العالية تُزهر كلَّ عام وتُسقط ثمارها، بل لأن الأطفال كثيرون إلى درجة لا تُصدّق، والعجائزُ حاضرون أكثر ممّا ينبغي.

في هذه الوضعية من السَّهل اختصارُ الحياة إلى أفعال إيمائية صامتة مُتواصلة، ثم تجيء النهاية، ويموت الناسُ ملوّثين بالسكون مثل أغصان جافة.

للحياةِ أهدافٌ أُخرى ربما لا نعيها. تعتقد أناهيد مثلاً، أنّ العجائز هُنا يُصرّون على عدم الموت، لا لشيءٍ سوى منع الأطفال من احتلال مقاعد الترامفاي. وإلّا هل هناك سبب آخر لهذا الحشْد من الكائنات النحيلة الدامعة، والمهتزّة والمتباطئة في سَيرها؟

غسان لا يعرف شيئاً عن الأسباب، أو هو لا يفكّر بها، كلّ شيء يبدو له مثيراً للفضول، بدءاً من ألعاب الكمبيوتر وحتى قامة ابنة الجيران مارتينا، مارتينا التي تُساويه في العُمر وتفوقُه بِطُولها الشمالي، مارتينا ذات الشعر الكستنائي الذي يغمر خدّيها دائماً.

يروح غسان ويجيء إلى الشُّرفة منتظراً رؤيتها، وهي تنحدر إلى الحديقة المُشتبكة الأشجار، أمام المبنى ذي النوافذ الألف، فتعبر الشارع يسبقها كلبها الضخم بشعره الأحمر الناعم.

النساءُ وحدهنّ سعيداتٌ ربّما بأسمائهنّ، لأنها لا تنتهي بالواو الممدودة والفاء

هنا في صوفيا ليس من دفءٍ أشدّ حناناً من هذا الاسم نفسه. الشتاءُ لا يعقبه إلا الشتاء. الأشجارُ السوداء العارية المتفحّمة من أثر الدخان تسكُن تحت الخُضرة الطافحة فقط، ثم تنفضُ عنها هذا الربيع العابر، وتعود إلى صمتها الشتائي القاتم.

يفتقد الإنسانُ الرائعَ والجميلَ. هما أقصر عُمراً أو هما بلا عُمر أو هما لا يستحقّان هذا النوع من الأعمار العابرة. اعتادت القبائلُ السلافية مذ كانت تُقيم حول نهر الفولغا، وقبل أن يجتاحها المغول وترسلها جحافلهم إلى هذا الشتاء الكامد، على إرسال الأذكياء والأحياء أكثر ممّا ينبغي إلى السماء، لأنّ من حقّهم أن يخدموا الآلهة لا البشر.

إذن في تلك الدقائق اللامرئية، دقائق مادتنا العجيبة بأنهارها وشموسها ونبضات قلوبها. لا تتواصل الأزمنة، ولا تتلاحم الأمكنة، إنّ لها مساراتها الخفيّة، انتقالاتها التي لا نعي. توزّعها. وجودها المتزامن. أي الروعة، والجمال الذي نصطاده من المستقبل. 

أقرأُ رواية "جوستين"، تلك الإسكندرانية الغامقة مثل تفاحة مشوية، تلك التي اختلق أسطورتها الإنكليزي لورنس داريل، وأفكّر بإعادة صياغة روحي مجدّداً.

ثلجُ صوفيا الأبيض يغطّيها، يغطّي أطرافها المُعتمة. كلُّ شيءٍ يبدو حجَرياً، همَّ بها وهمّتْ به، وتحجَّر الجسد. تماثيل وعمائر والناس أقزام تسعى. أرجاءٌ قاتمة، أرض مثل أطراف الروح، شهوةٌ محرّمة إلّا بالروح تحت سناج مداخن القطارات الثقيلة. 

يطفو نثارُ الثلج الأبيض، يتساقط على البشرِ والأشجار ونُصْب ديمتروف الملطّخ بالشتائم، وعلى كلّ اسم يعلّقون في نهايته الواو الممدودة والفاء بلا سبب. 

بافلوف، صاحب الشقّة المهترئة، يصرّ على الاحتفاظ بكلّ كتُبه الشيوعية، وحتى المجلّات النسائية الصادرة قبل نصف قرن، ويعلّل الأمرَ بأنّه يفي بقسَمِه. يصرُّ أيضاً على الاحتفاظ بخزانة خشَب الجَوز التي بهتَ لونُها البُنّي اللامع، وقاربَ لونَ التراب، مغلقة على ثياب زوجته الميّتة منذ عشرين عاماً. طويلٌ يبدو أنه يواصل الامتداد مع سنواته الثمانين. يميل إلى الأمام قليلاً وهو يشرح لماذا لا يحبّ شربَ شيء لا يصنعه بيديه، ولماذا رفض كلّ امتياز في الماضي. استعجلناه ليوقّع على عقد الإيجار خِشيةَ أن يموت في أيّة لحظة. كان هذا باقتراحٍ من جارته الخمسينيّة جالا التي يحيط السأم بكلّ أطرافها.

النساءُ وحدهنّ سعيداتٌ ربّما بأسمائهنّ، لأنها لا تنتهي بالواو الممدودة والفاء. بل بفتحة ممدودة دائماً، ولأنّ الكثيرات ربّما واثقاتٌ من أنّهن سيرقدنَ في خزّانات خشب الجوز مُحاطاتٍ بهذه الرقّة البافلوفية إلى يوم يبعثون: فساتين الماضي، والنظّارات الطبية، والأقلام وأداوت التجميل الجافّة ودفاتر اليوميات. الرجلُ ثقيل والمرأةُ خفيفة، ومؤلمٌ أن ترى النساء بسيقانهنّ البضّة يُسرعنَ تحت إلحاحِ إكراهٍ عنيف للّحاق بالترامفاي، أو للنجاة بأنفسهنّ حين ينطلق الرصاص فجأةً في الأزمنة المضطربة.

الشوارعُ البريئة والحدائقُ وبوّاباتُ المدارس يلفّها الصمتُ تحت أنظار الجنود العراقيّين المُنتشرين في كلّ الزوايا. ثلجُ صوفيا وصيف أغسطس. كلُّ شيء يحدث في زمن واحد. تتحوّل الكتبُ إلى آنيةٍ حجرية بلا رنين، ووجوهُ الأصدقاء إلى زهورٍ طافية يبتلعها تيارٌ مُعتِم يندفع إلى الماضي. وتحملُ الحقائبُ أشياءَ عزيزة: دِببة قُطنية وكتباً للأطفال. عصفورُ الكناري وحده في آخر الصالة الخالية، نلتفتُ إلى الماضي بين لحظة وأُخرى خِشية أن يختفي فجأة. لا يتردّد في الهواءِ سوى خطابٍ أبله عن الخاسئين، ودخانِ الشاحنات المُحترقة، ومشهد الجنود المذهولين أمام مخازن الألعاب والأغذية ورفوف الجمعيات التعاونية، والشوارع التي توقّفت، ولم تعد تشير إلى أيّ اتجاه.

برّيةٌ شاسعةٌ ونجومٌ بلا عدد على طريقٍ صحراوي. الطفولةُ أفقٌ مفتوح. بشَرٌ من مختلف الأنواع ينتظرون مجيئي. يا للسخرية. في هذه السنّ، وبهذا المِعطف الذي يلفّني، وهذا الغليون تحت النجوم، وهذا السائق الذي يستعجل الوصول ليعجل بالعودة.. فالوصول. ما الذي تبقّى؟ قصيدة ٌأو أغنية. كلُّ شيءٍ يبدو منتزعاً من إطارٍ مجهول.

التقيتُ بالحلّاجِ على غير انتظارٍ في أحد أحياء بغداد القديمة، قريباً من الجسر، في العُمق حيثُ البيوت الخلفيّة المُهترئة التي لا تظهر. باعةٌ أمام عرباتٍ، وذبابٌ، وأطفالٌ نصف عراة، ومحلّاتٌ لتصليح الزيوت نصف متآكلة، ومطاعمُ رطبة تتصاعد منها أبخرةٌ وعتمة، وتلمعُ في ظلامها وجوهُ الآكلين الجافة.

كنتُ جائلاً مع خيري بلا هدف، فإذا لافتةٌ نصف مطموسة وسهمٌ يشير إلى قبر الحلاج. أيّ حلاج هذا؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ أهوَ نفسه ذلك الذي صلبوه فجاء إليه أحد تلاميذه يسأله عن موعد النيروز؟ 

نواصل الدوران إلى حيث يقودنا سهمٌ، فآخر، نتوقّف عند هذا المنعطف وذاك. سهمٌ آخر وآخر بلا نهاية، والأزقّةُ تضيق، إلى أن نتوقّف أمام مشهد قبّة طينية ملطّخة بالأزرق الباهت تلوح من بعيد وحولها من كلّ الجِهات بيوتٌ منخفضة تُحيط بها: 

"لا بُدّ من مدخل، فلا يُعقل أن يُقام مقامٌ ويُسجن هكذا".

التقيتُ بالحلّاجِ على غير انتظارٍ في أحد أحياء بغداد القديمة

سيكتب خيري في بغداد، قبل أن يتحوّل إلى قوقعةٍ على أحد منحدرات عمّان، صوراً متلاحقة ولاهثة. يحاول أن يُمسك بالضجيج وهدير الطائرات والانفجارات. مئاتُ الصفحات تحت ضوء الشمعة... دفاتر... دفاتر...

"كان من المُحال أن نظلّ في الملجأ الآمِن تحت الأرض، ملجأ المحظوظين. في العتمة كانت العيون تتطلّع إلينا بعدوانية واضحة، عيونٌ تُخطّط لاغتصابات سرّية ومُتع لا أشكال لها".

مع نهاية الدفتر السادس، وقريباً من حدود الفجر سيدوّي انفجارٌ قريب، ويقتلع البيتَ المجاور، ويحطّه حطاماً. دفاتر مدرسية على أسلاك الكهرباء. رجلٌ مجهول يحدّق في الحطام، أو الناس الذين اختفوا ويردّد ذاهلاً:

"ذهبوا... اختفوا... لم يعودوا موجودين".

وأبدى حارسُ المقام الذي جاء به الأطفالُ إلينا أسفَه أو ضجره، لأن لا أحدَ يزور المقام منذ زمن طويل. وأضاف وهو يخرج المفاتيح: 

"كان يجيئُنا أناسٌ من الهند وباكستان وحتى أوروبا والآن لا أحد".

في الداخل ما يُشبه باحةً مسقوفة. لا يحمل الحارسُ توقيراً لا لصاحب المقام ولا للزائرين. وأحسَسْتُ أنّه يسخر منّا، وهو يتباطأ في سيره ويقف جانباً منتظراً أن ينتهي من مهمّته الثقيلة. 

في أيام الدراسة الجامعية قيل لنا، ونحن نهبط إلى سردابٍ في مسجد مُهمل، ها هنا غاصَ واختفى أحدُ الأولياء الغابرين منذ زمن بعيد. كان الحارسُ يتربّع على الأرض أمام الباب وأمامه مربّعٌ من الرمل خَطَّ فيه دوائرَ وخطوطاً مستقيمة، سأله طالبٌ جزائري:

"ما تفعل لو خرج الرجلُ من سردابه الآن؟". 

فتطلّع إليه الحارس بوجهه المجدور وعمامته الخضراء البالية وضحك:

"أضربه بالنعال... وأضربه إلى أن يعود إلى زمنه".

على بوابةِ الضريح دعاءٌ. والعجوزُ المتجهّم الملامح يفتحه ويتنحى جانباً. في الداخل يمتدُّ القبرُ عالياً وثقيلاً يغطّيه حرير أخضر، ساكناً، عادياً، لا يختلف عن أيّ بناء طيني من الأبنية المحيطة به. توقعّتُ رائحة بخور، وخيالات، وشيئاً من نقط الدم الذي توضّأ به الحلاج. لا شيءَ من هذا.

العجوزُ الذي أتخيّله حلّاجاً في دكّانه القديم يتحدّث لعدد من الفضوليّين المفتوحِي الأعيُن والأفواه، مشغولٌ يتطاير القطنُ من حوله.

كلّما اتسعتِ الرؤيا ضاقتِ الأمكنة، والعكس صحيح، كلّما ضاقت الرؤيا اتسعتِ الأمكنة، وأصبح الزقاقُ مركز الكون.

أقول لصديقي:

"أنتَ مغمورٌ إلى درجة مرعبة بثقل هذه المطاعم والأسواق المُوحلة، وروائح المقاهي العَطِنة... بغداد الصحف والمطبوعات والبيانات الخاوية". 

فيردّ خيري باستياء:

"وأنت خفيفٌ حتى العدم". 

يقترب من قوقعته.

وأضيف:

"نقطةُ أرخميدس تقع خارج كلِّ هذا". 

خارجَ أسراب الجنود العراقيّين بملابسهم الرثّة، ووجوههم البائسة والحائرة تحت شمس أغسطس المُفاجئة. خارج الأحياء المهترئة، والناس الذين تحيط بيوتهم المتداعية بضريح الحلّاج، والصحافيّين ذوي العيون الباهتة، ومذيع التلفاز المتأنّق الذي يهدّد بالبيانات الهاذية بغضب السماء، وانتقام المؤمنين، وسوء مصير الكفَرة والأشرار.

هذه النقطة العزيزة التي لو اكتشفها الإنسان لحرَّك منها الكُرة الأرضية، لم تكُن موجودة في أيّ مكان.

ثقيلٌ هذا الطريق الصحراوي إلى عمّان لأنه لا يُفضي إلى مكان، ثقيلٌ هذا الليل المقتطَع من آلاف الليالي وملايينها، وهذا السائق الثرثار، وكلمة التلميذ أمام حلّاجه المصلوب "نورزنا". ربما كانت سخريةً ودعابة، أو جرحاً غرسه هذا الأبله في جسد الشيخ المخبول. 

أودُّ أن أتطلّع إلى كلّ هذا، أتواضع مع الثقيل فأراه في مكانه، وأبحث عن الأكثر شفافية. الأحرى أن تكون الأبعاد هكذا: الثقيلُ، فالشفّافُ، فالضبابيُّ، فالمعتمُ، مرة أُخرى حتى آخر مجرّة في السماء. بدأ الكونُ بومضةٍ خارجة من العتمة، وتدفّق نجوماً ومجرّاتٍ وكواكبَ وآلاف الشموس والسنين الضوئية، كلٌّ يتّجه إلى شفافيتهِ ثمّ إلى ضبابهِ فظلامهِ شيئاً فشيئاً. هذه فكرةٌ ارتكازية ربّما تصلح لتحريك الكائنات، لفهم انتقالها من الصِّفر إلى الواحد، فإلى الصفر مرّة أُخرى. التعدُّد وهْمٌ.

ثقيلٌ هذا الطريق الصحراوي إلى عمّان لأنه لا يُفضي إلى مكان

تسهر الكاهنةُ، وصاحبةُ الحانة، وربّما تسهر جين الآن، وتسهر مئاتُ الساحات التي غادرها الهيبيُّون للريحِ والمطر الخفيف، وتسهر الطرقاتُ الصحراوية التي تختفي ربّما حالما نغيب عنها. 

يتنبّأ عرّافٌ بامرأةٍ شعرها حالك السواد، ليلٌ طويل: 

"في تميمةٍ معلّقة بين ثنايا شعرها أرى روحكَ معلقة... سجينة... أرى شرودكَ الدائم، وغيابكَ... أنتَ غائبٌ، شبح...".
تلك المرأة... ذلك الليل... ليلُ شعرها.

قُرب محطّة الترامفاي أحدّقُ بالأمّهاتِ ذوات الجوارب الثقيلة، بائعاتِ الأزهار عند الزاوية، بهذا الحشدِ من القبّعاتِ والمعاطفِ والأنفاس والوجوه التي لا يُسبَر غورُها. كلُّ شيء يجيءُ ولا يكاد يذهب. مهما ذهب الناس، سيذهبون إلى مكان.

أحياناً يشفُّ ويصبح خفيفاً، يغمره شعورٌ تحت شمس واضحة، إنّهم يفكّرون به، يفكّر بهم، يتذكّرون أينما كانوا، يبادلُهم اللعبةَ نفسها يتذكّرهم.

الساحات! لعلّها الآن في الثانية ظُهراً لا تزال صاعدةً بين الأعمدة المرمرية المحطّمة، بين الأنقاض، واثقةً أنها ستراه في الظلِّ مُستنداً إلى جِدارٍ هو كلّ ما تبقّى من غرفةٍ رومانية، مثلما حدث في المرّة الأُولى.

تقولُ إنها تعود إلى أوروبا كلّ سنة: حقيبةَ كتُب ضخمة تتركها في محطّة القطار، رافعةَ نهدين حمراء، جسداً يتدافع مثل موجة ذهبية. 

لا بدّ أنها تتجوّل الآن بين أحجار الفورم الروماني، تتطلّع بطرفِ عينها إلى المكان الخالي، أو تقف أمام نافورة تريفي مساء، أو تعود إلى غرفة البنسيون الصغير بعد جولة إرهاق لذيذ، ومرور بمطاعم الوجبات السريعة حين يزدحم المساء بالعابرين، فتقول لها صاحبة البنسيون النحيلة..."مهنتكنّ هذه متعبة... يا لك من مسكينة!". 

فتصرخ ليندا: "ماذا؟ إنّها تحسبني عاهرة!".

أحياناً يشفُّ، يصبح خفيفاً حين يراكِ مغمورةً بإيقاعاتِ البيانو في الصالة الواسعة، بثوبكِ الطويل، وهالةِ الشَّعْر السوداء، والحزنِ الذي لا تفسّره المرئيات. 

يلهو الطفلان، يتراكضان ويغوصان في الثلج الناعم فرحَين، غسّان الذي أعطاه اسماً علمانياً من دون أن يدري، ثم اكتشفَ في ما بعد إنّه يعني حبّة القلب، وجدّ غساسنة الشام، أي الشمال، أي حضارة النبيذ والمعابد، وأناهيد الآلهة الأرمنية أو الفارسية، وأخيراً نجمة الصباح العربية. أنهما مثقلان بالحضارات إذن. فكرةٌ فاتنة رغم طفولتهما أو بسببها ربّما. 

يلهو الطفلان بالثلج خفيفَين. هُما الآن بلا جِنسية، أي بلا ثقل، بلا قطعةِ الرصاص التي اعتادوا إلصاقها بقاع دمية البلاستيك القديمة حتى تقف دائماً كيفما ألقيتها، فلم تكن تستطيع النوم. 

يستطيعان النوم الآن، وهو أيضاً. لم يعد يسكنه ذلك الثقل. 

ليندا:

"لأوّل مرّة أُصادف فلسطينياً لا يهتمّ بالقضايا السياسية". 

كانا يقفان أمام لوحِ رخامٍ متآكل، رُفع وسط ساحة عامة، حفروا عليه أجسادَ جنود يتدافعون إلى معركة، فعلّق ساخراً:

"الأغبياء... كلُّ هذا لخداع البسطاء... أيّ مجدٍ يركض نحوه هؤلاء الهالكون؟ 

وتساءلتِ الإيطالية: "كيف تتوقّع أن تُحلّ القضية الفلسطينية؟". 

فقال: "بالبيولوجيا... البيولوجيا وحدها ستحلّ المشكلة في النهاية".

لم يكن طيلة حياته يملك إلّا ذلك النهار وذاك الليل. الحياةُ لا تؤجّل أبداً. ليست مشروعاً للتنفيذ في يوم ما في مُقبل الأيام. إنها الآن. 

ويتذكّر الآن أنه كان يعيش حياةً ويتوهّم غيرها، أو ينتظر غيرها. 

تغوص أقدامهما في الثلج، ويغوصُ هو في إحساسهِ بمتعةِ البرد العميق، وخفّةِ ندف الثلج المتساقط، ومشهدِ التماثيل الغرانيتية السوداء اللامعة. بعضها لا يزال على قواعدهِ، وبعضُها قلبوه، فغاص نصفه الجانبي في الثلج الأبيض، أو غاص وجهه وصدره، وبدأ الثلج يطمر ظهره اللامع. 

يلتفتُ إلى ممرّاتِ الحديقة الخالية، شخوصٌ تتراءى من بعيد، امرأةٌ تتباطأ في سيرها مع طفلين بحَجْم دُميتين تتحرّكان. أنوفٌ حمراء ومعاطفُ تصل حتّى الكعبَين. لا أحدَ يرغب بالحدائق المُعتمة الآن، الحدائقِ الباردة تحت سماءٍ من ضباب. المسافةُ إلى كلّ شيء مُعتمة وسوداء لولا هذا البياض الهادئ في تساقطه. 

حين كتب موظّفُ المطار أمام أسمائهم من دون أن يسألهم، "بلا جنسية"، أعجبته وأدهشته هذه البساطة واللامبالاة. بساطةُ انزياح قطعةِ الرصاص من قاع الدمية، لتصبح خفيفة تلهو بها الريح.

كنتُ أحبُّ الطائرَ الحجريَّ الملوّن، طائرَ الفخّار الذي نسيتُ وجوده إلى أن ذكّرني به صديق، وهو يفسّر قصيدة أغنية الطائر الحجَري. أشارَ إلى وجوده في الماضي، في طفولته، هو الطائرُ الذي كنّا نشتريه أطفالاً ليختزن قروشنا القليلة. 

أدهشتني الإشارة والتفسيرُ؛ هل كان رمزاً؟ وهل كانت القصيدةُ سفينةً، رمزاً للعودة؟ لم أكن أعرف أنه موجودٌ في عُمق طفولتي أيضاً، ساكنٌ ربّما حتى هذه اللحظة في زاوية بيت قديم... لا... ربّما تحت شجرة أو أصل جدار. 

البيوتُ تُغيِّر ساكنيها وأشياءها. تتهدّم أو تختفي، وكذلك الطرقاتُ التي تقود منها وإليها. ربما كان طائراً في عُمق طفولته، وظلَّ محلقاً معه، يعلّمه الكلام، يتنبّأ عنه، يقوده إلى أماكنَ اكتشفها في أحلامه، لهذا تذكره. يبدو أنني نسيته، ربما لأنه في لحظةٍ ما، وعند منعطفٍ ما أو أمام رعبٍ ما، توقّفَ عن التحليق وعاد إلى حالته الحجرية في عُمق الماضي. تركته مع ما تركتُ من أشياء. تؤلمني فكرةُ الطائر المفقود، أغنيته التي تحجّرتْ، وتفرحني في وقت واحد معاً. 

عند النبعِ يلتقي صيّادٌ أو إنسانُ بَرارٍ بالكاهنةِ ذات الشعر الأسود الطويل، فيغادر أيائله المندهشة، ويقع عليها طوال ستة أيام بلياليها، فتعلّمهُ حضارةَ الجسد، تأخذ بيده مثل طفلٍ ليصنع المآثر العظيمة. تجيء الكاهنةُ، لا تعلّمه حضارةَ الجسد، لا تقوده مثل طفلٍ، تتوقّف عند النبع، تتعرّى أمامه، تحدّق فيه، ثم تردُّ عليها ثيابها وتغادر. يحاولُ اللحاقَ بالأيائل وحيوان البرّ، تخونه قدماه. يودُّ لو يعود إلى برّيته ويرمّم هذا العطب. 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون