في مئوية إلغاء الخلافة: مقاربة عبر التاريخ السابق للحكم العثماني

25 مايو 2024
"متحف التاريخ الوطني" في تيرانا (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- خلال السنوات الثلاث الماضية، تم الاحتفال بمئويات مهمة مرتبطة بالتاريخ العثماني مثل إلغاء السلطنة والخلافة ومعاهدة لوزان، مما أثار اهتمامًا متجددًا بالتاريخ العثماني وأدى إلى عقد ندوات وإصدار كتب جديدة تستند إلى مصادر أرشيفية.
- النظرة إلى التاريخ العثماني تختلف بشكل كبير بين المناطق، حيث تعتبره بعض البلدان استعمارًا بينما تراه أخرى كفترة حماية، مع تأثير كبير للسياقات السياسية والأيديولوجية المحلية، خاصة في البلقان.
- الدراسات الحديثة والمقاربات الجديدة للتاريخ العثماني تقدم صورة أكثر تعقيدًا وتوازنًا، متحديًة الصور النمطية ومسلطة الضوء على تأثير العثمانيين المعقد على المنطقة، مثل تأثير الدفشرمة على الألبان.

حفلت السنوات الثلاث الأخيرة بعدّة مئويات متداخلة (مئوية إلغاء السلطنة العثمانية في 2022، ومئوية معاهدة لوزان في 2023، ومئوية إلغاء الخلافة العثمانية في 2024) عُقدت حولها ندوات وصدرت كتب حفلت بجديد سواء فيما يتعلّق بالمعلومات الجديدة المستمدّة من الأرشيفات والأوراق الشخصية لشخصيات كان لها دورها في الأحداث (ومن ذلك يوميات أحمد عزّت باشا العابد التي صدرت في 2019 بعنوان "صندوق عبد الحميد الأسود") أو المقاربات الجديدة لمسائل خلافية في صلب النظام العثماني.

ويختلف الأمر من لغة إلى لغة أو من منطقة إلى منطقة، حيث إنّ السردية الشائعة في بعض البلدان راسخة ولا تحتمل المراجعة لاعتبارات عديدة، تتعلّق بالأنظمة التي خلفت الحكم العثماني، وكذلك العلاقات السياسية بين الدول التي انبثقت عن الدولة العثمانية، سواء فيما سُمّى الشرق الأدنى (البلقان) أو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (العالم العربي)، ومن ذلك تعبير "الاستعمار العثماني" الذي شاع في مصر وسورية في خمسينات وستّينات القرن الماضي مع توتّر العلاقات مع تركيا، ولكنّه كان مستهجناً في ليبيا وتونس والجزائر التي تَعتبر أنّ الحكم العثماني خلّصها من المصير الذي لاقته إمارة غرناطة عام 1492.

في ما يتعلق بالبلقان، كان للأيديولوجيات والأنظمة التي حكمت باسمها (القومية والشيوعية) دورها في ترسيخ سرديات رسمية عبر الكتب المدرسية عن الحكم العثماني؛ فقد كانت الفكرة القومية تتمحور حول تضخيم بطل محلّي مقابل عدوّ ظالم لتحرير البلاد واستقلالها وفق خريطة لا تنطبق على الواقع (وتضمّ عادة قومية أو قوميات أُخرى غير مرغوبة)، وبقيت هذه الفكرة حيّة حتى انبثاق "العثمانية الجديدة" التي أجّجتها أكثر. ومع وصول الأحزاب الشيوعية إلى الحكم في دول البلقان جرى تطبيقٌ تعسّفي للمفاهيم الماركسية على العهد العثماني بوصفه نموذجاً للنظام الإقطاعي والاستبداد الشرقي. ومع أن "ربيع أوربا الشرقية" شمل دول البلقان ببركات الديمقراطية، إلّا أنّ صورة الحكم العثماني في الكتب المدرسية بقيت متفاوتةً، سواء في مضمونها أو في طريقة اعتمادها.

كثيراً ما ارتبطت صورة الحُكم العثماني بالعلاقات مع تركيا

ويلاحَظ في صربيا واليونان أنّ الصورة النمطية تتغيّر أحياناً حسب العلاقات مع تركيا، بينما نجد الصورة مختلفة في البوسنة (المؤلَّفة من كيانَين مختلفين) بين الصرب والبُشناق، حيث نجدها سلبية في "جمهورية الصرب" وإيجابية أو أكثر موضوعية في "فدرالية البُشناق والكروات"، ومثل ذلك نجده بين الألبان في الجمهوريات المجاورة التي يعيشون فيها (ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية). وبالمقارنة مع البلاد العربية، يختلف الأمر في البلقان لأنّه كان الخزّان الذي جاءت منه النخبة العسكرية والإدارية التي حكمت الدولة العثمانية خلال القرون الأُولى (حوالي 1450 - 1700) بواسطة نظام الدفشرمة (جمع أو اختيار الشبّان للخدمة العسكرية/ الإدارية في الدولة) الذي كان العرب واليهود والأكراد والأتراك معفيّين منه.

ففي سنوات التوتّر مع تركيا، بقيت صورة الدفشرمة سلبية للغاية باعتبارها "ضريبة الدم" التي تماثل الاسترقاق. ولكن التغيّر الذي حصل في تركيا عام 2001 وانتهاج سياسة "تصفير المشاكل" مع الدول المجاورة أدّى إلى اختراق في اليونان بعد تبادل الزيارات الرسمية والاتفاق على مراجعة كتب التاريخ؛ فقد أثمر هذا، مع وجود وزيرة التعليم المنفتحة مارييتا ياناكو (2004 - 2007)، إصدارَ كتاب مدرسي جديد للتاريخ للصفّ السادس الابتدائي في 2006 يغطّي تاريخ اليونان من 1453 إلى نهاية القرن العشرين، ولكنّ هذا الكتاب جوبه بحملة كبيرة شاركت فيها الكنيسة والأوساط القومية اليمينية حتى تعرّض للحرق في "ساحة سينتاغما" المعروفة في أثينا.

وقد انصبّت الاعتراضات عليه من كونه يقلّل من دور الكنيسة في حركة الاستقلال عن الدولة العثمانية، ولا يصف الحكم العثماني بكونه "عبودية"، ويقدّم الدفشرمة بشكل مختلف عما زُرع في أذهان أجيال من اليونانيّين. وقد دافعت الوزيرة عن الكتاب بقولها: "أنا أومن بالحقيقة في ما حدث في التاريخ، ويجب ألّا نروي للأطفال قصصاً سحرية"، لكنّها دفعت الثمن في انتخابات 2007 التي خسرت فيها مقعدها البرلماني ومنصبها الوزاري، بينما عمد خلفها في الوزارة إلى سحب الكتاب فوراً من التداول.

الصورة
اليونان القرون المخفية
كتاب "اليونان، القرون المخفية: الحكم التركي من سقوط القسطنطينية إلى الاستقلال اليوناني"

وقد تعرَض لهذا المؤرّخ البريطاني ديفيد برِوَر D. Brewer في كتابه "اليونان، القرون المخفية: الحكم التركي من سقوط القسطنطينية إلى الاستقلال اليوناني"، الذي صدر في لندن عام 2010. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الكتاب يُقدّم صورة أكثر موضوعية عن الحُكم العثماني بالمقارنة مع ما هو موجود في اللغة اليونانية، حيث يعتمد المؤلّف على مقاربة جديدة للحكم العثماني تتمثّل بمقارنته مع ما كان قبله (حُكم البندقية لليونان الذي همّش الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية)، كما يميّز بوضوح النصف الأوّل عن النصف الثاني من الحكم العثماني (1453 - 1821)، مخالفاً الصورة النمطية الشائعة التي لا تعرف سوى اللونين الأبيض والأسود.

وفي هذا السياق، نجد صورةً مختلفة أو أكثر موضوعية عن الدفشرمة؛ حيث يذكر أنّه مع وصول أحد أولاد الدفشرمة من اليونان إلى منصب الصدر الأعظم للسلطان سليمان القانوني (إبراهيم باشا 1523 - 1536) "لم يكن يُجبَر كلّ أولاد الدفشرمة على الذهاب إلى إسطنبول، بل إنّه في بعض الأحيان كان الآباء يقدّمون برغبتهم ابنهم الأوّل، وفي بعض الأحيان يقدّمون ابنهم الثاني.. على أمل أن يرتقوا بنجاح ليكونوا مفيدين لأسرهم وأولادهم" (ص 270).

صعد الألبان في الهرمية العثمانية بواسطة الدفشرمة

وفي ألبانيا المجاورة لليونان، التي انتشر الإسلام فيها خلال الحكم العثماني حتى أصبح يشمل غالبية السكّان، نجد أنّ مثل هذه المقاربة الجديدة (المقارنة مع الحكم السابق) تُثمر صورة مختلفة تماماً عن السردية التي كانت مفروضة على الجميع خلال الحكم الشيوعي (1945 - 1991). وليس من المستغرب أن يكون صاحب هذه المبادرة من الجيل الجديد من المؤرّخين الذين درسوا في الخارج (البرتغال) وعادوا بمقاربة أكثر شمولية لتاريخ بلادهم ضمن السياق الأوروبي.

صحيح أن أرديان موهاي Adrian Muhaj درس التاريخ في "جامعة تيرانا"، ولكنّه درس الماجستير والدكتوراة في "جامعة لشبونة" وعاد إلى بلاده بمقاربة جديدة عن الحكم العثماني تبدّت في عدّة دراسات في المجلّات العلمية الألبانية والأوروبية، قبل أن ينشر "معهدُ التاريخ" في تيرانا عام 2019 كتابه "من البلقان إلى المتوسّط: الألبان من القرون الوسطى إلى فجر العصر الحديث".

الصورة
كتاب من البلقان إلى المتوسّط الألبان من القرون الوسطى إلى فجر العصر الحديث
كتاب "من البلقان إلى المتوسّط: الألبان من القرون الوسطى إلى فجر العصر الحديث"

وعلى نمط المؤرّخ البريطاني ديفيد برِوِر في كتابه عن اليونان، كان يكفي المؤرّخ أرديان موهاي أن يقارن الحكم العثماني في ألبانيا بالحكم الذي سبقه (حكم البندقية) ليصل إلى مفارقة كبيرة بين الحكمين: الحكم الكولونيالي الذي يستبعد تماماً مشاركة السكّان في الإدارة، والحكم الإمبراطوري الاحتوائي الذي يقوم على مشاركة السكّان في الإدارة.

وبواسطة الدفشرمة تمكّن الألبان من الصعود في الهرمية العثمانية حتى كانت لهم أكبر حصّة من الصدور العظام (أكثر من ثلاثين) كما خرجوا من القوقعة التي كانوا فيها في البلقان لينتشروا في عالم المتوسّط خلال القرن السادس عشر ولاةً وقباطنةً وقادةً عسكريين. وقد استمرّ هذا الحضور الألباني في تزايد، خصوصاً مع بروز محمد علي باشا والياً على مصر في 1805 وتأسيس الأسرة العلوية الحاكمة التي اجتذبت الكثير من الألبان للعمل، إلى حدّ أنّ الألبان في مصر قبل 1952 كانوا الجالية الخامسة من حيث العدد بعد الإيطاليّين واليونانيّين والفرنسيّين والإنكليز، كما زاد في تركيا بحدودها الحالية، حتى أنّ عدد الألبان في تركيا الآن يكاد يتجاوز عدد الألبان في ألبانيا ذاتها.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون