مئوية معاهدة لوزان: إنهاء التنوّع الثقافي باسم الدين والقومية

مئوية معاهدة لوزان: إنهاء التنوّع الثقافي باسم الدين والقومية

24 يوليو 2023
لاجئون يونانيون في ميناء مودانيا، تركيا عام 1922
+ الخط -

في هذا اليوم، تُعقد عدّة ندوات وأنشطة بمناسبة "معاهدة لوزان" التي وُقّعت في 24 تموز/ يوليو 1923، بعد حوالي سنتين من التفاوض بين الدول الأوروبية المُنتصرة في الحرب العالمية الأولى (باستثناء اليونان التي هُزمت في حربها على تركيا بين عامَي 1919 و1922)، والتي خرجت منها تركيا بحدودها الحالية (باستثناء لواء إسكندرون الذي "ضُمّ" لاحقاً إلى تركيا)، بعد أن أصبحت دويلة داخلية في الأناضول، حسب "معاهدة سيفر" عام 1920.

ولذلك مَن يُقارن بين خريطةِ ما بقي لتركيا، حسب "سيفر"، وبين ما أصبحت عليه في "لوزان" (تركيا الحالية)، يُقدّر مكانة مصطفى كمال الذي أصبح أتاتورك (أبو الأتراك) في تاريخ تركيا الحالية، ويتفهّم وجود تمثال له في كلّ مدينة صغيرة أو كبيرة. ولكنّ المئويات تُفيد أحياناً - في غير بلاد التمجيد والتقديس - في مُراجعة ما حدث بعيون الحاضر والمستقبل، وتقبُّل رؤية جديدة، بالاستناد إلى الوثائق وكتب المذكّرات التي نُشرت بعدّة لغات، بالإضافة إلى الدراسات الأكاديمية التي نشرها جيلٌ جديد من المؤرِّخين غير معنيّ بسرديات الماضي. 

جريمة ترحيل بحقّ مئات الألوف أجبروا على ترك موطنهم 

في السياق، يتفهّم المرء وجود سرديّات في الحاضر، تُركِّز على جانبٍ ما في "معاهدة لوزان" (1923). فقد كانت المعاهدة انتصاراً كبيراً لتركيا، لأنّها انتزعت الاعتراف بحدودها الحالية، بعدما انكمشت إلى دُويلة مُطلَّة على بحر واحد (الأسود)، وتخلّصت من الامتيازات وتوصّلت إلى حلّ مقبول بالنسبة إلى الدُّيون المُتراكمة على الدولة العثمانية التي ورثتها تركيا الجمهورية، وأعلنت بُعيد التوصُّل إلى المُعاهدة. أما بالنسبة إلى اليونان فقد عنَت نهاية أسطورة "الفكرة الكبرى" (Meghali Ideia)، أو استعادة اليونان غرب الأناضول والقسطنطينية (التي بقيت تُسمَّى كذلك)، ضمن "اليونان الكُبرى"، وهي الفكرة التي تبنّاها رئيس الحكومة اليونانية آنذاك فينيزيلوس، وشنّ الحرب على تركيا شبه المُحتلّة في 15 أيار/ مايو 1919، لتحقيقها بالإنزال العسكري في ميناء إزمير، ثم التوغُّل في الداخل. ولكنّ الهزيمة التي حلّت بالجيش اليوناني، نتيجة للمقاومة التي قادها مصطفى كمال، أدّت إلى هزيمة فينيزيلوس في انتخابات 1920، وبقاء "الفكرة الكبرى" لدى دوائر بعض المُتعصّبين فقط.


التنوّع الثقافي كضحية لمعاهدة لوزان

بالنسبة إلى البعض الآخر، تبدو "معاهدة لوزان" مُهمّة في جانب آخر غير مسبوق في التاريخ، ألا وهو التبادُل القسري للسكّان بين تركيا واليونان، الذي اعترض عليه فُقهاء القانون باعتباره جريمة غير مسبوقة بحقّ مئات الألوف ممن أُجبروا على ترك موطنهم الذي لم يعرفوا غيره، وأُجبروا على الانتقال إلى موطن آخَر لم يتكيّفوا معه بسهولة، في وقت كانت "عصبة الأمم"، التي تأسّست رسمياً في 1919، قد شرّعت "حقوق الأقليات"، وأجبرت الدول المنتصرة والمهزومة في الحرب العالمية الأولى على التوقيع على معاهدات خاصة لحماية الأقليات فيها، مثل يوغسلافيا وبلغاريا واليونان وغيرها. 

الصورة
لاجئون يونانيون - القسم الثقافي
من واجهة إزمير البحرية، حيث احتشد آلاف الهاربين من المدينة المحترقة، عام 1922 (Getty)

كان الأمر يتعلّق بمنطقة غنيّة بالتنوع الثقافي، تمتدّ من بلاد الشام إلى بلاد البلقان، مروراً بالأناضول، الذي يرتبط بالتنوّع الإثني والديني فيها، وحافظ على نفسه ضمن الدولة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر، التي انتشرت فيها فكرة القومية الإثنية التي تستلهم حدود القرون الوسطى، لكي تستعيد الدولة المنشودة في واقع قد تغيَّر تماماً. 

ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1912، شنّت دول التحالف البلقاني (بلغاريا واليونان وصربيا والجبل الأسود) الحرب على الدولة العثمانية لـ"تحرير الإخوة الأرثوذكس"، ولكن عندما تبيّن أنّ الأراضي الواسعة التي استولوا عليها يعيش فيها آخرون، يتحدّثون لغات أُخرى، ويدينون بديانات أُخرى، احتاج الأمر إلى "تجريف" تلك المناطق من السكان غير المرغوب بهم، عن طريق المجازر أو الترحيل.

كانت الذريعة وقف المجازر المتبادلة بين الأتراك واليونانيين

فحسب أدقّ المُعطيات حول عدد ضحايا التطهير العرقي للمسلمين من إثنيات مختلفة، يبرز أنّ عدد من قُتل وصل إلى 623,408 مسلمين، وأن عدد من هُجّر وصل إلى 812,771 مسلماً، منهم 3181 وصلوا إلى ولايَتي حلب وسورية. ومع ذلك، حين انتهت حربا البلقان، الأولى والثانية، سواء بين دول البلقان والدولة العثمانية، أو بين بلغاريا وبين اليونان والدولة العثمانية، جاءت مُعاهدات الصُّلح خلال 1913 - 1914 بانفراجات تتقبَّل الأقلّيات في كلّ دولة، وتسمح بهامش للخيار بين العيش ضمن الدولة الجديدة، أو الانتقال إلى الدولة العثمانية. 

ولكن ما حدث خلال الحرب اليونانية - التركية 1919 - 1922، التي يُسمّيها الأتراك "حرب الاستقلال"، كان يفوق ما حدث في حرب البلقان الدموية 1912 - 1913. فقد أدّى الإنزال العسكري اليوناني في إزمير، الذي سبقه إنزال الحلفاء المستفزّ في إسطنبول عام 1918، إلى شقّ موقف السكّان بين مؤيّدين ومعارضين على أساس قومي - ديني، حيث أيّد بعض الأرمن واليونانيّين الإنزال العسكري، الذي اعتبروه مقدّمة لوعود الحلفاء بدولة أرمنية كبيرة، تضمُّ شرق الأناضول، وبضمّ غرب الأناضول إلى "اليونان الكبرى". ولكنّ هذا الموقف استفزّ الجانب الآخر القومي - الديني (التركي المُسلم)، وهو ما مهّد إلى مجازر مُتبادلة إلى جانب المعارك بين الجيشَين اليوناني والتركي، أودت بمصير مئات الألوف. 

الصورة
معاهدة لوزان - القسم الثقافي
التوقيع على معاهدة لوزان من قبل الدول الأوروبية المنتصرة بالحرب العالمية الأولى (Getty)

مع هزيمة الجيش اليوناني في معركة سقاريا الحاسمة في صيف 1922، وعدم حماس فرنسا وإيطاليا وبريطانيا للتورّط في حروب أُخرى لاعتبارات داخلية، وتصاعُد "الحرب الأهلية" إلى جانب الحرب النظامية، رحّبت قيادة الدولتين بفكرة المفوَّض السامي للّاجئين في "عُصبة الأمم" فردتجوف نانسن F. Nansen تبادُل السكّان لتفادي المزيد من المجازر والمجازر المضادّة بين الطرفين. وقد توصّل الطرفان إلى توقيع "معاهدة التبادُل القسري للسكان بين اليونان وتركيا" في 30 كانون الثاني/ يناير 1923، حيث دخلت بكاملها، كجزء لا يتجزّأ، في "معاهدة لوزان" التي اكتملت ووُقِّعت في مثل هذا اليوم: الرابع والعشرين من تموز/ يوليو 1923. 

ألهمت الحرب إرنست همنغواي، الذي غطّاها كصحافي، بقصصه الأولى

بالمقارنة مع تَرْك الخيار للسكان بالبقاء ضمن الحدود الجديدة للدول القومية (بلغاريا واليونان وصربيا والجبل الأسود) أو الهجرة إلى الدولة العثمانية، نجد أنّ المعاهدة الجديدة نصّت على أمر غير مسبوق في القانون الدولي، ألا وهو ترحيل السكان غير المرغوب بهم لاعتبارات قومية أو دينية إلى الدولة الأُخرى. وتتراوح التقديرات بين مليون و200 ألف ومليون و400 ألف لليونانيّين والأرمن الذين جرى ترحيلهم إلى اليونان، وبين 350 ألف و400 ألف من المسلمين من قوميات مختلفة، والذين جرى ترحيلهم من اليونان إلى تركيا. 

وكانت المشكلة في أّن المعاهدة نصّت على المعيار الديني ("الأرثوذكس" بالنسبة إلى تركيا، و"المسلمين" بالنسبة إلى اليونان)، في الوقت الذي كانت كلّ دولة تتبنّى المعيار القومي في أيديولوجيتها! وهكذا، في حين أنّ تركيا خسرت التنوّع الثقافي الأرمني - اليوناني الأرثوذكسي من البحر الأسود إلى بحر إيجة (باستثناء إسطنبول حيث بقي التنوّع فيها إلى 1955)، فإنّ اليونان تخلّصت من عدة شعوب غير تركية (البوماق والألبان والغجر) بحجّة أنهم من "المسلمين"، مع كونهم لا يعرفون اللغة التركية، وعانَوا كثيراً بعد ترحيلهم إلى تركيا في التكيُّف مع الظروف الجديدة غير المألوفة لهم.


إرنست همنغواي شاهد العيان على ما حدث

على الرغم مما كُتب عن إرنست همنغواي في العربية، لا أعرف مَن توقّف عند المصادفة التي غيّرت حياته، عندما قام في بداية عمله الصحافي بتغطية الحرب اليونانية - التركية 1919 - 1922، التي ألهمَته بعض القصص، ونشرها في أول مجموعة قصصية له عام 1925 بعنوان "في زمننا"، والتي فتحت له طريق الشهرة الأدبية. وكان همنغواي قد حظِي بفرصة عمل عام 1917، بعد تخرُّجه من المدرسة الثانوية، في جريدة "ذا كنساس سيتي ستار"، استفاد منها خلال الأشهر الستّة التي عمل فيها، قبل أن يتطوّع مع "الصليب الأحمر" للذهاب إلى جبهة القتال في إيطاليا في كانون الأول/ ديسمبر 1917، حيث أُصيب في ساقَيه خلال قصف بقي يتعالج من شظاياه حوالي ستة أشهر.

الصورة
إرنست همنغواي - مقالات - القسم الثقافي
غلاف كتاب يضمّ كل المقالات التي كتبها همنغواي خلال 1920 - 1924 في جريدة "تورنتو ستار"، وصدر عام 1985

وبعد عودته إلى الولايات المتحدة عام 1921، اشتغل لدى جريدة "تورنتو ستار"، التي عيّنته مُراسلاً لها في أوروبا. وخلال وجوده هناك، تفاقمت المعارك في الحرب اليونانية - التركية، وصولاً إلى الحدث الكبير المتمثّل في حريق إزمير في أيلول/ سبتمبر 1922، والذي كان شاهداً عليه. كانت هذه السنوات فترة تحوُّل همنغواي من مُراسل صحافي إلى كاتب قصصي. وقد كان للحرب التي شهدها بين تركيا واليونان دورها، إذ إنه استلهم بعض قصصه من مُجريات الحرب، ومن ذلك حريق إزمير في 1922، في أول مجموعة قصصية أصدرها عام 1924 بعنوان "في زمننا"، قبل أن يتحوّل إلى الرواية ويُصبح روائياً معروفاً.

ومع أنها الأُولى ضمن تراث أدبي غنيّ، فقد أُعيد إصدار هذه المجموعة عدّة مرّات، ثم نُشرت ضمن إصدار جديد في 2021 بالغلاف الأصلي، وهي السنة التي صدرت فيها الترجمة العربية بتوقيع الزهراء سامي، ومراجعة مصطفى محمد فؤاد. ويلفت النظر في الترجمة العربية أنّ القصة الأُولى التي ترتبط بالحرب وردت بعنوان "على رصيف ميناء سميرنا"، عوضاً عن "على رصيف ميناء إزمير"، إذ إن قلّة من القرّاء العرب يعرفون أنّ هذه المدينة تُشتَهر باسمَين، مثل العديد من المُدن في الأناضول والبلقان، وأنّ الاسم الشائع لها عند العرب هو إزمير.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون