ندوة: العلوم الاجتماعية في مواجهة الإبادة

28 يناير 2024
من اليمين: سفيان جاب الله ومهدي مبروك ومنير السعيداني وعمر بن بوجليدة
+ الخط -

بعد تخصيصه الحلقة الأُولى من "سيمنار فلسطين: المعرفة، الهيمنة والتحرُّر"، لموضوع التَّغطية الإعلامية للحرب الصهيونية على غزّة؛ عقَد مساء الجمعة الماضي، فرعُ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس، حلقةً ثانية بعنوان "العلوم الاجتماعية وسؤال غزّة"، وشارك فيها مجموعة باحثين، وهُم: أباهر السقّا (عبر "زوم")، وعُمر بن بوجليدة، وسفيان جاب الله، ومنير السعيداني، وقدّمها مُدير المركز الباحث مهدي مبروك، وبُثّت عبر حسابات المركز على وسائل التواصُل الاجتماعي.

قدّم مبروك للحلقة من خلال الإشارة إلى أن غاية حلقات هذا السيمنار، هي السؤال عن دور العلوم الإنسانية في تحليل الأحداث، وملء الفراغات المتشكّلة في هذه الحقول المعرفية، من خلال إعادة قدرتها على رصد وقراءة الواقع، في ظلّ ما تعيشه غزّة من حرب إبادة جماعية.

انطلق أستاذ علم الاجتماع في "جامعة بيرزيت" أباهر السقّا، من أن ما تعيشه فلسطين اليوم هو امتداد للمارسات الاستعمارية منذ أكثر من قرن. وأنّ عمليات إنتاج العلوم في منطقتنا العربية تشهد "إبادة معرفية" مُرتبطة بالحقبة الاستعمارية. ولكن نحن اليوم أمام مشهد مُركّب، فعلى سبيل المثال، كنّا نعرف سابقاً آراء المثقّفين الغربيّين المزدوجة من القضية الفلسطينية، مثل جان بول سارتر، اليوم أصبحنا أمام مواقف أشدّ التباساً، كما عند هابرماس وجيجك. وبالتالي ما هو دورنا كباحثين عرب في تصدير معرفة مُخالفة؟ خاصة أن الجهاز المفاهيمي الغربي كلُّه بات في موضع الشكّ.

"الإبادة المعرفيّة" شرطٌ سابق لغيرها من الإبادات

أمّا أستاذ الفلسفة في "جامعة تونس" عمر بن أبو جليدة، فلفت في مداخلته إلى "أنّ قدراً كبيراً من الدوائر الماركسية، مُصابة بالعماء عن مسألة الكولونيالية، فماركس ضحيّة لطُغيان الاستشراق، الذي يُلجِم تعاطف ماركس الأساسي مع البؤساء والطبقة المُفقرة، رغم أن ماركس حاول أن يقدّم منظوراً ناقداً للغرب لا بكونه غرباً، بل في تجسيده لمرحلة من مراحل تطوّر علاقات الإنتاج، التي تعكس انشراخ الغرب على ذاته".

وتابع أبو جليدة، كذلك لدينا النظرية النقدية التي تمثّلها "مدرسة فرانكفورت" رغم تبصُّراتها النافذة، صمتَت صمتاً مُريباً عن مقاومة الإمبريالية، فضلاً عمّا جاء به "المُتساقِط" هابرماس بتعبيره، كواحد من أبرز ممثلي هذه المدرسة.

كما أشار المُحاضِر في حديثه إلى تقلّبات سارتر الموقفية، بين مساندة حركات التحرّر وبالأخص في الجزائر، وانقلابه على هذا الموقف حيال فلسطين. ويبدو أنّ هذا الأثر ممتدٌّ اليوم في الدوائر الأكاديمية الغربية التي "تربطُ شرور القرن بالقضية الفلسطينية، حيث تصبّ جام غضبها على القضية وحدها". ولفت أيضاً، مُستشهداً بإدوارد سعيد، إلى موقف ميشيل فوكو المُنحاز ضدّ فلسطين، وكيف أثّر هذا في إنهاء صداقته مع مواطنه جيل دولوز الذي كان مناصراً لهذه القضيّة.

وختَم الباحث بالقول: "كيف نتعلّم التفكير بغير الطرائق التي عهدناها؟ فليس الغربي هو الذات الحاملة للتفكير، ولماذا نفوّض أمرنا لغربٍ بات يتمزَّق؟ وهنا لا بدّ من اللجوء إلى صيغة خطاب بعد كولونيالي مُضادّ، والقضية لا تُختزل بـ'التغلُّب' على الغرب، بل في 'تجاوزه'".

العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم أمام امتحان حقيقي

بدوره، انتقل الباحث سفيان جاب الله إلى الحديث عن الأصوليّات الفكريّة، التي يعتبرها تنسحب على ظواهر تتعدّى النظرة الضيّقة في الغرب، التي ترميه كصفة للحركات الإسلاميّة. مُعتبراً أنّ تأطير حركة التاريخ لدى هذه الأصوليات، على مختلف خلفياتها ومشاربها، لا يختلف كثيراً بوصفه "براديغماً ناجِزاً"، وخاصة في النظر إلى الآخَر "المتُخلِّف". وهُنا لا بدّ من التساؤل، وفقاً للباحث، "هل الغرب متيّمٌ بالكيان الإسرائيلي، أم هو في الأصل مُعادٍ ومتناقض مع كل ما هو عربي أو إسلامي؟". ولفت جاب الله إلى أنه عند كلّ مُفترَق تحرُّري يُقدِم عليه الجنوب، تُصبح إشكاليّة الدُّول الغربية أكبر بكثير. وهنا يلجأ الغرب إلى "نزع إنسانية الآخَر"، ليتحرّر من أيّ عبء أثناء مواجهته وإبادته، وهذا ما ينطبق على تعاملهم اليوم مع الشعب الفلسطيني.

المُداخلة الأخيرة في هذه الحلقة، قدَّمها أستاذ عِلم الاجتماع في "المعهد العالي للعلوم الإنسانية" في "جامعة تونس المنار"، منير السعيداني، الذي أكّد أهمّية إرساء أُسس لعِلم الاجتماع المُقاوِم الناقض للاستعمار، انطلاقاً ممّا يحدث اليوم في غزّة من إبادات، لأنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم أمام امتحان حقيقي. في المقابل، يُدرك الغرب أنّ "محميّة الحداثة" (الكيان الإسرائيلي)، مُهدَّدةٌ أكثر من أي وقت مضى بالاقتلاع، إزاء "مُمارسة مُنغمسة بالاستبداد الشرقي"، وفقاً للتعبير الغربي. في حين أنّنا أمام معركة من معارك التحرُّر الوطني لها تسمية مُحدَّدة "طوفان الأقصى"، ولها آفاق عربية وإسلامية وإنسانيّة. لكن في النهاية نحن في مواجهة أمام سرديّتين، إحداهما ذات مرجعيّة مركزية أوروبية تستعيد مقولة "الهولوكوست" والثانية تمثّل الذات العربية.

وتساءل السعيداني: "ماذا يعني أن نكتب تاريخاً ما؟ حيث رأينا في ما يحدث في غزّة أنّ مَن يكتُب التاريخ ليس المؤرِّخ، بل ذلك الذي ينقل لنا الوقائع كما تحدث، وائل الدحدوح من أكبر مؤرّخي العصر، لأنه ينقل لنا التفاصيل كما تحدث، وعليه: التاريخ ينزاح عن موقعه الأكاديمي المُعتاد ليدخل بوتقة لم تكن موجودة، ولم تكن لتوجد لولا الدور التكنولوجي الكبير لوسائل الإعلام، بل لأوّل مرّة نشاهد المُقاوم الفلسطيني وهو يحمل كاميرا توثّق استهدافه لآليّات العدو".

ولفت السعيداني أيضاً إلى مقولتَي الأرشيف والمتحف، مُعتبراً "أنّ أرشيف البشرية اليوم موجودٌ في وسائل التواصُل الاجتماعي، التي تُعيد بناء السرديّات. ولمّا كانت فكرة الأرشيف فكرة حداثية مُطلقة، فإنها تعني أنّك تحبس تفاصيل حياة الناس في وثائق. أمّا المتحف، فيُشرع بإنشائه، حسب المُحاضِر، عندما تنتهي الوقائع لكنّنا اليوم نشهد أنّ المتحف متحرّك، بل إن نقيض فكرة المتحف يأتي من النظر إلى الدمار الذي طاول خمسين بالمائة من المباني في غزّة، المتحف هنا لا يحوي المعالم بل الرُّكام".

كما أشار المُحاضِر إلى بروز المرجعية الكبيرة لمفهوم القانون الإنساني، والتساؤل عما إذا كان ما يحدث في غزّة هو إبادة جماعية، يعود بالضرورة إلى تعريفات قانونية موجودة في مدوّنة القوانين الدُّولية، ومن هُنا نفهم الرُّعب الصهيوني من أن تمرَّ القضيّة في أروقة "محكمة الجنايات الدُّولية"، لا فقط لأنّ من رفَع القضيّة هم جنوب أفريقيّون، بل لأنّ المُناقشة ستخرج عن الأُفق الحداثي التنويري، وسنعود لنخضع إلى التعريفات (الكونية) من جديد، والتي من المفترض أن تكون إنسانية، ولا فرق فيها بين الأجناس والأنواع.

وختم السعيداني: "بخصوص المحرقة، فقد طُرحت بوصفها الحلّ النهائي في التعامُل مع المسألة اليهودية في أوروبا، وهذا التفكير متجذّر في الوعي الصهيوني، وهذا ما نراه من خلال الأهداف المدنيّة التي تقصفها آلة القتل الإسرائيلية، التي إن لم تقتل العائلات بشكل كامل فهي تسرق الأعضاء، وتهاجم الأطبّاء والمستشفيات، وهذا ما نقصده بالإفناء الكلّي للوجود الفلسطيني، وكلّ هذا يترافق مع إبادة المكان وليس البشر فقط، بهذا تصبح الممارسة الصهيونية ليس أكثر من استعادة للنازيّة".
 

المساهمون