نص اللاجئ (9): قصة تحفظ معنى الانتصار

نص اللاجئ (9): قصة تحفظ معنى الانتصار

10 ديسمبر 2022
طفلٌ فلسطيني يحمل مفتاحاً لأحد البيوت التي هجّر الجيش الإسرائيلي أهلها عام 1948 (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "نصّ اللاجئ"، والتي لم تُنشَر في كتاب، وهي من أهم أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


سيتذكّر اللّاجئون فيما بعد أنّ عدداً من يهود بلادنا القدماء، كانوا يحدّثونهم عن أشراط الشتات، فيقولون إنهم سيتغلّبون عليهم الآن، وسيخرجونهم من فلسطين كما تقول الكتب القديمة، إلّا أنّ الفلسطينيّين سيعودون في النهاية ويتغلّبون.

ربّما كانت هذه الروايةُ نوعاً من السرد الذي تبتكره الشعوب المغلوبة لتتغلّب على جوائح الإبادة، بأن تخلق لها شبكة حياةٍ خاصة بها؛ ووسائلَ عيشٍ وموتٍ، وحنْيةً في جدار، أو ما يُسمى بالإنكليزية Niche، توفّر لها استمرارية التناسل وتغيير طرق حياتها الإنسانية كما يقول علماء الإيكولوجيا. وبهذا النوع من المكان، يتحدّد وجودُ اللّاجئ ومصيره بالاختلاف عن غيره. إنه يجد معناه مكانياً بالاختلاف الحاضر في الذهن دائماً بين "المخيم"، و"المعزل"، و"التوراة" وشتى المسمّيات، وبين فلسطين.

هذا على صعيد دلالة الوجود، أمّا على صعيد الصوت، أو صوت الخطاب، فتجدُ المعنى أو هذا هو المفترض، باختلاف الرواية عن الروايات الشائعة في الخضمّ: رواية القومية العربية أو الصراع الطبقي، أو الصراع الديني... إلخ.

الإصرارُ على أنّ لنا روايتَنا الخاصة ومصيرنا الخاص، ربما كان من العناصر التي ساعدت اليهود على الإمساك بمعناهم في شتّى الإيكولوجيات. وليس إصرارَ اللاجئ وحربه الدائمة لبناء معناه الخاص وسط المعازل العربية حتى أكثرها بذخاً، إلّا جانباً من جوانب هذا المسعى الإنساني نفسه.

نعرف ما كنتَ عليه في الماضي، ونُريد حالياً أن تبيعنا أرضكَ في أمّ الزينات

يقول لي الخالُ الذي وجده الاحتلالُ الإسرائيلي عجوزاً مُهدّماً في أحد مخيّمات الضفّة الغربية في العام 1967، إن الضابط الإسرائيلي استدعاه بعد أيام بالاسم. وفي غرفة تعجُّ بالعسكريين، قال له بهدوء: "نحن نعرف ما كنتَ عليه في الماضي"، ويعني حمله السلاح في العام 1936، "ولكن ذلك أمرٌ انتهى الآن، ما نريده حالياً هو أن تبيعنا أرضك في أمّ الزينات، فنحن نعرف أنّ لك أرضاً واسعة هناك".

وهَزّ الخالُ الذي هُزمت بندقيته العثمانية رأسَه شاعراً بالانتصارِ لأوّل مرّة منذ سنوات طويلة، ورفضَ قائلاً: 

- "أنتم تحتلّون الأرض فما حاجتكم لشرائها؟".
 
لم يُجبِ الضابط الإسرائيلي عن السؤال وتجاهله وتمتم:

- "أنتَ ما حاجتكَ إليها الآن، نحن نحتلّها، وأنتَ لا تملكُ من الأرض شيئاً، فلماذا لاتبيع؟".
 
وحاول العسكريون من حوله تقديمَ حججٍ أُخرى. كان إلحاحهم عجيباً على الأقلّ بالنسبة للخال الذي فُوجئ بانتصارهِ. وهل تتوقّع من منتصرٍ أن يتنازل عن معناه؟

ليس من المعروف كيف فكّرَ ذلك الضابط ولا كيف يُفكّر الآن إنْ ظلّ حيّاً، والأرجح أنه ما زال مندهشاً ربّما من هذا العجوز الذي رفض أن يبيع أرضاً لم يعُد "يملكها" الآن، ولا أمل له في "امتلاكها"، إلّا أن الأمرَ المؤكّد هو أن هذا الضابط لم يدرك أنه ردَّ إلى اللّاجئ انتصارَه، الذي حرمته من الإحساس به، طوال تسعة عشر عاماً، أكياسُ وكالة الغوث وأحذيةُ جنود البادية ولفظةُ اللاجئ المُهينة التي طاردته كما اللعنة: ردَّ إليه معناه الإنساني بالأحرى. 

في عمّان الآن كما يُقال ينسَلُّ عددٌ من اللاجئين إلى السفارة البريطانية، للحصول على إثباتاتٍ ووثائق مُلكية الأراضي التي نقلتها بريطانيا إلى قبرص غداةَ انسحاب جيوشها من فلسطين. 

سردٌ تبتكره الشعوب المغلوبة لتتغلّب على جوائح الإبادة

لا أشكُّ أنّ الضابط الإسرائيلي ذاك الذي اصطدم باللّاجئ المنتصِر في مخيّم العام 1967، ستنفرج أساريرُه الآن وهو يجدُ هذه الكائنات التي فقدت الإحساسَ بالاختلاف بين النصر والهزيمة، بين اليوم والغد، بين المعنى واللّا معنى، تهرع لتمنح احتلالَه معناه المفقود منذ أكثر من أربعين سنة: النصر!

أصحابُ أسطورة الشتات والعودة في ما بعد، ومن دون أن يقرأوا الكتب القديمة، وأنا منهم، سيحتفظون بانتصارهم من أجل أطفالهم. من أجل طفلةٍ رائعة اسمُها أناهيد (أرمني وفارسي وعربي وما شئتَ من حضارات)، وقفت وهي ذات السنوات العشر، أمام مدرسة اللغة الفرنسية لتقول لها "آسفة يا أستاذتي... ولكن هذه ليست إسرائيل... بل فلسطين في التاريخ كلّه"، وكانت تشير بذلك إلى خريطة موضع الدرس.
    
لا أعتقد أن كلَّ من يذهب إلى السفارة البريطانية في عمّان، للحصول على وثيقة مُلكيّة أرضه، ينوي بيعَها لأحد السماسرة المنتشرين الآن والمتغلغلين في مخيّمات اللاجئين. ربّما كانت هذه نيّة البعض كما هي نيّة اللّاجئين في لبنان الذين اشتروا، كما يشاع على سبيل التندّر، آلاتٍ حاسبة ليحسبوا بالضبط كم يستحقون من تعويضات حين يأتي وقتُ فتح الدفاتر، وهو آتٍ ولا ريب، إلّا أنّ الذين يُدركون جيّداً أنهم ما زالوا المنتصرين رغم تهافُت سماسرة أوسلو، وسطوة العسكريين الإسرائيليين المحتلّين، ليس من السهل أن يتنازلوا عن انتصارهم. 

لقد علّمتِ الخطاباتُ المبتذلةُ والناقصةُ أنّ الانتصارَ مرتهنٌ بالسيطرة على موقع، وإقامةِ حرسٍ في قرية، أو تنظيمِ حفلة تهريج في غزة أو أريحا، ولم تعلّم أنّ الانتصار هو الاستعصاءُ على التشويه الداخلي، على اقتلاع فكرة الوطن من داخل الإنسان. 

والحق أن أسوأ ما في صفقة أوسلو، وأردأ ما في هذا الابتذال المسمَّى الحُكْم الذاتي، ليس الاعتراف بأن الساحل الفلسطيني هو "إسرائيل"، أو مصافحة المحتلّ بابتسامة عريضة تكاد تشقُّ وجه الانتهازي والسمسار، أو إقامة مشاريع مالية وأمنيّة مشتركة مع المحتلّين فقط، بل هو في محاولة هؤلاء اقتلاع فكرة الوطن الفلسطيني من أعماق الفلسطيني.
    
قال لي صديقٌ من المُحاربين القدماء، تحوّل إلى المُتاجَرة بأدوات التجميل في شوارع صوفيا، عن سبب تحوّله، أنهم كانوا جعلوا مني ومن بضعة زملاء في الجامعة قوّات تدخُّل سريع، فيوماً تعالوا إلى لبنان لأنّ المعركة مع الإمبريالية أصبحت حاسمة، ويوماً تعالوا لنحرِّر الجبل، ويوماً تعالوا لأنّ الظرف حاسم. وكانت قشّة الجبل هي الحاسمة. فقلتُ لهم أخيراً: "أنا لم أتدرّب وأنضمّ إلى صفوف الثورة لتحرير الجبل وغيره أو كل ما يخطر ببالكم... أعرف أنني فعلتُ هذا من أجل فلسطين". وكان هذا فراق بيني وبينهم.
    
هذا إنسانٌ اقتلعوا من أعماقه فكرةَ الوطن، أو جعلوها غائمة مبكّراً حين كان اللاجئ، موظّفاً لخدماتٍ لا ندري أيّ شيطانٍ كان يهمسُ بها، فحوّلوه إلى "يساري" مهمّته تغيير العالم، أو "قومي" يعيدُ إلى أمّة زكي الأرسوزي الغائبة جوهرها المفقود، أو"مسلم" يجبُ أن يستعدّ ليفتح موسكو، وأخيراً إلى شرطي يهوي بالهراوة على رأس أمّ فلسطينية في قرية بالية من قرى الضفّة الغربية.

سيتذكّر اللاجئون دائماً قِصصَ عجائز يهود بلادنا التي تقول لهم إنهم سيتغلّبون عليهم الآن، كان ذلك في الثلاثينيات، إلّا أنّ الفلسطينيين سيعودون ويتغلّبون. ربّما كانت هذه القصص، ويا للمفارقة، هي التي حفِظت للّاجئ معناه وانتصاره، لا خطابات منظّماته وأثواب أيديولوجياتها المرقّعة من كلّ ما هبّ ودبّ من أفكار. وربّما كانت هذه القصص هي التي جعلتهُ يتجاوز اليوم إلى الغد وما بعده، في تماسكٍ إيكولوجي يستعصي على الإبادة والانقراض. 

وحين نعرف أن تعداد الفلسطينيّين الآن، يقارب الثلاثة ملايين نسمة في فلسطين وحدها، والخمسة تقديراً خارجها، ندرك مدى اليأس الذي كان يخيّم على ذهنية ذلك الضابط، وهو يطلب من الخال شراءَ أرضهِ المحتلّة منذ العام 1948، وندرك مدى الابتذال الذي يغرق فيه سماسرة الحُكْم الذاتي، وهم يضعُون أنفسهم في خدمة الصهيونية التي تُواجه القرن الحادي والعشرين وهي لا تعرف ماذا تفعل بترسانتها النووية وطائراتها وصواريخها أمام الفلسطينيين، الذين عادوا بالفعل كما تنبّأت الكتبُ اليهودية، فإذا بتضاريسُ فلسطين تضجّ بهم... ليس بسبب ما يزعمه شعراءُ وكتبةُ السماسرة المبتذَلين... بل بسبب قوانين الإيكولوجيا وحدها.

المساهمون