هارولد بنتر.. سياسات الحياة الخاصة

22 ديسمبر 2014
بنتر في بورتريه لـ جاستن مورتيمار (لندن، 1992)
+ الخط -

حين أدارت راديو السيارة، كانت المسرحية الإذاعية في منتصفها، مرّت ربع ساعة تقريباً من دون أن تفهم شيئاً، وبالتدريج ظهر لها أن الرجل والمرأة لا يتحاوران فعلاً، بل إنّ كلّاً منهما يدير مونولوجاً، وكأن العمل مسرحيتان من المونودراما جمعتا في عمل واحد.

أوقَفَت السيارة وكان عليها أن تنزل، لكنها فضّلت الانتظار حتى النهاية لتعرف ما هو هذا العمل ومَن صاحبه؛ "كنتم مع مسرحية "منظر طبيعي" لهارولد بنتر والتي أذيعت أول مرة على الراديو سنة 1969"، ثم أضافت المذيعة: "هذه الاستعادة بمناسبة الذكرى السادسة لوفاته التي توافق 24 كانون الأول/ ديسمبر". كان ذلك في العام الماضي، أي أننا في الذكرى السابعة الآن.

تذَكَرَت أنها تعرف بنتر من السينما أكثر من المسرح. عيب على قارئة أن تعترف بذلك، فهو مسرحي بالدرجة الأولى، لكن الثنائي الذي صنعه مع المخرج الأميركي جوزيف لوزي لا يقاوم، كان لقاءً بين مسرحيين عظيمين في السينما، لوزي قادم من الإخراج المسرحي وبنتر من الكتابة. تتذكر فيلم "الخادم" أو "الحادث"، "الأخذ والرد" هو المفضّل لديها؟ "الأخذ والرد" هي ترجمتها الخاصة للعمل The go-between، هل هي ترجمة موفّقة؟

هناك خبر أن مسرحيته "الأيام الخوالي" تعرض حالياً في دمشق. اقتبسها المخرج السوري عمار منيف محمد. تكشف هذه المسرحية، التي مثّلت أول مرة على خشبة "مسرح شكسبير" في لندن سنة 1971، الكثير عن عالم المسرحي الحائز على نوبل (2005). ولدى عرضها الأول، تحدّث عنها بنتر في إحدى المقابلات: "لقد تأكد لي يوماً بعد يوم، أن الماضي ليس ماضياً، وأنه لم يكن يوماً كذلك، إنّه الحاضر بعينه". هذا هو "ماضي" بنتر أو"أداة الهيمنة النفسية"، كما يصفه الناقد البريطاني مايكل بيلينغتون، لنقل إن الكاتب المسرحي يحلّل من خلال هذه الهيمنة "سياسات" الحياة الخاصة.

في نص "الأيام الخوالي"، ثلاث شخصيات، رجل وامرأتان، ديلي وآنا وكيت. مهمة هؤلاء أن يعيشوا في الماضي، فمن عادة بنتر أن يدوِّر الحدث في زمن خارج الزمن المسرحي، إنه كاتب مدمن على الذكريات، وتكاد تكون هذه طريقته المفضّلة في معالجة الوقت في النصوص المسرحية. كل شخصية تتذكر حادثة ما بطريقة مختلفة عن الأخرى، ولكل ذاكرة مصداقيتها. لا أحد يعرف، لا الشخصيات ولا المتفرجون، أين تروى الحادثة كما حصلت بالفعل. على هذا النحو، كشف مؤلف "على وجه الدقة" و"ضوء القمر" و"العودة إلى البيت" عن الأفكار الخاصة والتجارب والأحلام، ولكن من خلال وعي الشخصيات، وليس، كما فعل كثير من المؤلفين، عن طريق لاوعيها.

ورغم أن هناك الكثير ممّا يمكن أن تتواجه الشخوص حوله وتحتدّ بسببه أو عليه، إلاّ أن بنتر يتفادى المواجهة الدرامية ويتحاشى لقاء أبطاله في حوار حقيقي، ويبرّد أي فرصة للحوار أو الشجار أو التفاعل، يريد لكل ذاكرة أن تعيش حياتها الخاصة وتأخذ فرصتها على الخشبة. وفي الحقيقة، فما نعرفه عن المسرح، بما فيه مسرح العبث الذي أخذ منه بنتر كثيراً، يحتاج إلى إعادة نظر عند مشاهدة عمل من كتابة مؤلف "لغة جبلية".

ثمة علاقات مكرّرة في أعمال بنتر، سواء أكانت مسرحاً أم سينما، لنقل إنّ في تأليفه اهتماماً خاصّاً بفكرة الزواج، الزاوج بين رجل وامرأة، الزواج بين الشخصيات في عمل واحد، الزواج بين الذاكرة والحاضر، الزاوج بين المسرح والسينما. وفي الحقيقة، إن الزاوج بمعناه التقليدي، "الرجل والمرأة"، على رأس هذه القائمة، هذه العلاقة مكررة في شغل بنتر.

لنعد إلى داف (الزوج) وباث (الزوجة) في مسرحية "منظر طبيعي"، التي وُصفت بأنها "أفضل وأسوأ ما كتب بنتر"، بعضهم اعتبر أنها "مملّة ومثيرة" في آن، وفيها تقول باث: "أريد الوقوف إلى جانب البحر، إنّه هناك. (صمت)، لقد فعلت. عدة مرات. (صمت) إنه أمر طالما همّني. فعلته. سأقف على الشاطئ. على الشاطئ. (صمت)، حسناً. كان الجو منعشاً. لكنه كان ساخناً على الكثبان.(صمت)، لكنه كان منعشاً جداً على الشاطئ. وقد أحببت ذلك كثيراً".

في هذا المقطع نرى كيف يتصرف بنتر مع الذاكرة والزمن، يستخدم في فقرة واحدة من المونولوج ثلاثة أزمنة، الماضي، الحاضر، المستقبل، جامعاً بين التذكّر والتمني، وهذه سمة طالما ميّزت كتابة بنتر. فالشخصية هنا، باث، تعيد إنتاج الماضي بوصفه مستمراً من جهة، وتطلعاً إلى طمأنة العلاقة وشبابها من جهة أخرى، وفي هذه معضلة العلاقات الخاصة؛ التوق إلى تجنيبها العطب، والمدّ في عمرها من خلال التمنّي من جهة، ثم استدعاء الماضي من الجهة الأخرى.

فصلت هذه المسرحية، إضافة إلى "صمت" و"ليل"، أعمال بنتر عمّا عرف به مسرح العبث من قبل، فاقترحت مسرحية المشهد الواحد في وقت مبكر، ووسّعت هذا المشهد الواحد من خلال التلاعب بالزمن، ليبدو كأنه يتنقل بين عدة مشاهد. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن فهم وحب مسرح بنتر من دون فهم موقفه من الزمن والذاكرة والعلاقات الخاصة.

لننظر إلى مسرحية "من رماد إلى رماد"، التي عرضت أول مرة في 1996 في لندن، وهي آخر عمل مسرحي كتبه بنتر، وتدرو أيضاً بين زوجين في الأربعينيات من عمريهما. إنهما، على نحو ما، الزوجان في مسرحيته الأولى "منظر طبيعي".

تذهب "من رماد إلى رماد" إلى ما هو أبعد، وذلك من خلال استخدام ذاكرة فردين للتعبير عن ذاكرة جمعية معنّفة وضخمة، ويلجأ إلى حالة شبيهة بـ"التنويم المغناطيسي" التي تبدو معها ذاكرة الممثلين كأنما تعيش حالة اعتراف لا إرادية. ولا يمكن إغفال اللعبة الذكية في هذا العمل الذي قدّم فيه بنتر تصوّره عن المسرح التاريخي، فأمكنه أن يقدم من خلال حكاية زوجين، حدثاً من أهم مفاصل القرن العشرين ومن أعنف ما حدث في الحرب العالمية الثانية.

لنقل إنه من الصعب أن نحب مسرح بنتر إذا لم نفهم لعبة التفنّن في التذكّر، فالذاكرة، بطيبعة الحال، قادرة على كل شيء، تقّدم وتؤخّر وتتخيّل على راحتها. إنه أحد هؤلاء المؤمنين بقوة الماضي، وبأنه المكان الذي تحدث فيه الحكايات ويصاغ فيه كل ما هو مقبل.

المساهمون