أميركا في المنعطف الخطر... خلافات سقف الدين تهدد مركزها المالي

أميركا في المنعطف الخطر... خلافات سقف الدين تهدد مركزها المالي

12 مايو 2023
الجمهوريون يضعون بايدن أمام خيارات صعبة (Getty)
+ الخط -

يبدو أن الولايات المتحدة تقترب من المنعطف الخطر بسبب تفاقم الدين السيادي الذي يرى خبراء أنه قد يهدد مركزها المالي العالمي، الذي يعد واحدة من الركائز الرئيسية التي تعتمد عليها في الحفاظ على مكانة "الدولة العظمى" الوحيدة التي ترسم استراتيجيات " النظام العالمي.

وتفاقم الدين السيادي الذي بات واحدة من نقاط الخلاف المتكررة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى مستويات مرعبة، حيث بلغ 31.5 تريليون دولار، وتشير تقديرات إلى أن الدين سيرتفع بنحو 19 تريليون دولار أخرى خلال الأعوام العشرة المقبلة إلى 50.5 تريليون دولار.

وتسعى الإدارة الأميركية منذ أسابيع إلى إقناع الكونغرس برفع سقف الدين العام قبل نهاية شهر مايو/ أيار الجاري حتى تتمكن من الصرف على الإنفاق الحكومي، ولكن الحزب الجمهوري يرفض ذلك حتى الآن. وتتوقع وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، أن تنفد السيولة النقدية لدفع فواتير تسيير الدولة في أوائل يونيو/حزيران، إذا لم يتخذ الكونغرس أي إجراء لرفع سقف الدين.

من جانبه، حذر الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم الأربعاء، من مخاطر عدم موافقة الحزب الجمهوري على رفع سقف الدين بقوله إن الاقتصاد الأميركي قد يدخل في حالة من الركود ويلغي ملايين الوظائف. وفي خطاب على غرار الحملة الانتخابية في ولاية نيويورك، اتهم بايدن الجمهوريين باختطاف" الاقتصاد رهينة" من خلال المطالبة بتخفيضات كبيرة في الإنفاق مقابل رفع سقف الدين.

لكن في المقابل، دعا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المشرعين الجمهوريين إلى السماح بتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، إذا لم يوافق الديمقراطيون على خفض الإنفاق.

وأضاف ترامب الذي يعتزم الترشح للرئاسة مرة أخرى، خلال مقابلة مع "سي أن أن" الأربعاء، موجهًا حديثه للمشرعين الجمهوريين: "إذا لم يعطوكم تخفيضات كبيرة، فسيتعين عليكم (السماح) بالتخلف عن السداد".

وأضاف: "لا أعتقد أنهم (في الحزب الديمقراطي) سيسمحون بذلك، وسينهارون تمامًا، لأنهم لا يريدون حدوث هذا، لكنه أفضل مما نفعله الآن، حيث ننفق المال مثل البحارة المخمورين".

وتابع الرئيس السابق: "حسنًا، يمكنك فعل ذلك الآن، لأنك ستفعله لاحقًا، ولأننا يجب أن ننقذ هذا البلد، الذي يحتضر ويجرى تدميره من قبل أناس أغبياء جداً".

ويخشى محللون من أن يؤدي تخلف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها إلى فوضى في الأسواق وضعف في الاقتصاد وخسارة الوظائف، وحذرت إدارة جو بايدن بالفعل من أن ذلك ستكون له تداعيات قوية على الاقتصاد العالمي.

أسباب الخلاف

تحاول إدارة بايدن زيادة سقف الدين العام من دون شروط من الجمهوريين بشأن الإنفاق الحكومي، فيما يبدو أن مجموعة فرعية صغيرة ولكنها مؤثرة من الجمهوريين في مجلس النواب ترفض طلب الإدارة الأميركية وعلى استعداد للمخاطرة بالتخلف عن سداد أقساط الدين السيادي للولايات المتحدة، إذا لم توافق إدارة بادين على خفض كبير في الإنفاق الحكومي، وذلك وفقاً لتقرير في "مجلس الشؤون الخارجية الأميركي".

لكن ماذا يعني التخلف عن السداد للولايات المتحدة؟
من شأن الرفض الجمهوري لرفع سقف الدين، في حال تواصل حتى نهاية شهر مايو/ أيار الجاري، أن يجبر الحكومة الأميركية على التخلف عن سداد أقساط الدين التي هي عبارة عن دفع كلف الفائدة المترتبة على سندات الخزانة الأميركية. ومثل هذا التخلف ستكون له تداعيات كبيرة على "النظام المالي العالمي"، الذي يعتمد حالياً على الدولار وأدواته المالية من سندات وأسهم وأصول مالية وغيرها.

ويرى تحليل حديث في مركز "غرينبيرغ للدراسات الاقتصادية " الأميركي أن التخلف عن خدمة الدين من شأنه أن يقود إلى حدوث اضطراب كبير في أسواق المال العالمية والأميركية، ويضعف مركز الدولار في الاحتياطيات الدولية، ويقوض مركزه كـ"عملة ملاذ" آمن في الأزمات المالية والسياسية.

كما يرى كذلك أن التخلف عن السداد سيقوض مصداقية سوق سندات الخزانة الأميركية الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في تمويل الإنفاق المستقبلي. حيث تعتمد وزارة الخزانة على إصدار السندات وبيعها للبنوك والدول والمستثمرين من أنحاء العالم في تمويل العجز في الميزانية. ويقدر إجمالي سوق سندات الخزانة الأميركية بنحو 24.3 تريليون دولار حتى نهاية إبريل/ نيسان الماضي، وفقاً لبيانات اتحاد الأسواق والأوراق المالية.

وعلى الصعيد السياسي، يرى محللون أن النظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة حالياً سيتعرض لضربة قاصمة. وتعتمد الولايات المتحدة في نفوذها العالمي وسياستها الخارجية على القوة العسكرية وعلى القوة المالية التي تستخدمها عبر المؤسسات المشتركة لاستمالة الدول والتصويت لجانبها في الأمم المتحدة، وكذلك عبر ضغوط الحظر الاقتصادي والمالي على الدول التي تعارض سياستها الخارجية.

وترى دراسة مركز "غرينبيرغ للدراسات الاقتصادية " أنه في حال تخلف الولايات المتحدة عن السداد، فإن أميركا ستخسر قوة الدولار كعملة احتياط دولية، وكذلك قوة سوق السندات الأميركية التي تعد من الأدوات الآمنة في حال الاضطرابات ويمكن تسييلها بسرعة ومن دون كلفة مترتبة على تسييلها مثل سندات الدول الأخرى.

كما ترى أن أسواق رأس المال، وعلى رأسها سوق "وول ستريت" الذي يفوق حجمه 50 تريليون دولار، ستتعرض لهزة كبرى. وبالتالي فإن حجر الأساس للنظام المالي للولايات المتحدة سيكون في خطر. ويرى تحليل المركز أن التخلف عن سداد الدين السيادي سيعني أن واشنطن تخاطر بكل شيء، بما في ذلك علاقاتها مع الحلفاء والدول الداعمة لها في معاقبة روسيا، بسبب غزوها أوكرانيا.

من جانبها، ترى دراسة مشتركة لمكتب الميزانية بالكونغرس ووزارة الخزانة الأميركية أن يتسبب عدم رفع سقف الدين السيادي في أضرار جسيمة للاقتصاد الأميركي.

ويوضح التحليل الذي أجرته مجموعة من الباحثين أنه إذا تخلفت حكومة الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها، سواء تجاه الدائنين أو المقاولين أو المواطنين، فإن الاقتصاد سيتحول سريعاً إلى الاتجاه المعاكس، أي من النمو إلى الركود، وبالتالي زيادة معدل البطالة وتحول الإنفاق الحكومي من تحقيق مكاسب من الضرائب التي يجنيها من رواتب الموظفين إلى خسائر بسبب مدفوعات حقوق البطالة.

في ذات الشأن، يرى الاقتصاديان بمعهد بروكغنز الأميركي في واشنطن، ويندي إيدلبيرغ ولويز شاينر، في دراسة، أن التخلف عن سداد الديون الأميركية من المحتمل أن يقود إلى حدوث اضطرابات كبيرة في الأسواق المالية، "وأن "مثل هذه الاضطرابات في الأسواق المالية من المرجح جدًا أن تكون مصحوبة بانخفاض في أسعار الأسهم في سوق وول ستريت، وفقدان ثقة المستهلك والأعمال التجارية في الاقتصاد الأميركي وتقلص الوصول إلى أسواق الائتمان الخاصة".

ويقول التحليل: "لقد رأينا بالفعل أدلة على ضغوط كبيرة في السوق مرتبطة بتوترات سقف الدين في الماضي، إذ ازدادت عوائد أذون الخزانة قصيرة الأجل، ما أدى بشكل مباشر إلى زيادة تكلفة الاقتراض للحكومة، وبالتالي التكلفة على دافعي الضرائب".

حجم مرعب

لكن ما هو الدين السيادي الأميركي، وكيف تراكم إلى هذا الحجم المرعب؟
الدين القومي، المعروف أيضاً باسم الدين الفيدرالي أو الدين العام أو الدين السيادي، هو الالتزام المالي المستحق على الولايات المتحدة. وهو ما تدين به الحكومة الفيدرالية للدائنين، بما في ذلك الديون التي تحتفظ بها الصناديق الائتمانية العامة والحكومية الفيدرالية. وتزايد هذا الدين ليصل إلى هذا الحجم المرعب عبر عجز الموازنات السنوية المتراكمة حتى بلغ 31.5 تريليون دولار بنهاية إبريل/ نيسان 2023، حسب بيانات وزارة الخزانة الأميركية.

ويعادل هذا الدين حالياً نسبة 124% من إجمالي الناتج المحلي السنوي للولايات المتحدة. كما أن خدمة الدين السيادي السنوية تقدرها وزارة الخزانة الأميركية بنحو 384 مليار دولار، أو ما يعادل 12% من إجمالي الإنفاق المالي السنوي للحكومة الأميركية. ويعني على الصعيد الفردي أن كل مواطن أميركي مدين للعالم بنحو 94,142 دولاراً.

ويختلف عجز الميزانية السنوية للحكومة الفيدرالية عن الدين القومي. إذ يحدث العجز عندما يتجاوز الإنفاق على مدار العام الإيرادات الحكومية من المصادر التي تشمل الضرائب التي تحصل عليها الحكومة من الدخل الشخصي ودخل الشركات وأرباح الرواتب.

ويذكر أن أسباب تراكم العجز المتواصل في الإنفاق الأميركي يعود إلى الخفض الضريبي الذي أقره الرئيس جورج بوش الأب في أعوام 2001 و2003، الذي رفع العجز بما يقارب 1.7 تريليون دولار. وفي العام 2018، قدرت لجنة الميزانية بالكونغرس القيمة السنوية المترتبة على خفض الضرائب بنحو 488 مليار دولار.

وترى لجنة الميزانية أن الزيادة المتراكمة في العجز السنوي للإنفاق ستبلغ 1.9 تريليون دولار في العام 2028. ويبدو أن الدين السيادي الأميركي يتجه ليتفوق على حجم الاقتصاد العالمي ما لم تتمكن واشنطن من تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب.

المساهمون