الأزمات تحاصر كهرباء مصر: قطع التيار وفشل التصدير

03 يناير 2023
الحكومة ضخت استثمارات بـ34 مليار دولار في محطات توليد الكهرباء (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

"آسف على إزعاج المواطنين، على انقطاع التيار الكهربائي"، رسالة وجهها رئيس شركة كهرباء الإسكندرية إيهاب الفقي في الساعات الأخيرة من العام المنصرم، أعقبها اعتذار آخر لعموم المصريين من مصدر مسؤول بالشركة القابضة لكهرباء مصر عن الانقطاعات المستمرة في التيار الكهربائي على مدار الأيام الماضية.

الأسف الأول يعلم الجمهور أسبابه، فالمدينة الساحلية تغرق كعادتها في "شبر مية" مع موسم هطول الأمطار، تؤدي إلى تشكل "بحيرات" في الشوارع، وانقطاعات في شبكات الكهرباء للبيوت والشوارع.

جاء الأسف الثاني على لسان المصدر المجهول رفيع المستوى للصحف المحلية، الجمعة الماضي، ليكشف عن كارثة أخطر تنتظر عموم مستخدمي الكهرباء البالغ تعدادهم 104 ملايين نسمة، يدفعون قيمة فواتير عبر 34 مليون عداد استهلاك كهرباء شهريا.

تتجه الحكومة إلى إطفاء محطات التوليد والتوزيع لعدم قدرتها على شراء المازوت بالدولار، وتوفير قطع الغيار، وترشيد نفقات التشغيل المستحقة للموظفين يوميا، بعدما أثقلت ميزانية قطاع الكهرباء بديون تزيد عن 550 مليار جنيه (الدولار = نحو 24.7 جنيها)، أغلبها على مشروعات غير مجدية، وإصرار الحكومة على زيادة تصدير الغاز المخصص للكهرباء إلى أوروبا، للاستفادة من الارتفاع الهائل في أسعاره عالميا، بعد فشلها في تصدير فائض الكهرباء الضخم إلى الخارج.

نفذت الحكومة خطة الإظلام بالمحافظات على مدار الأسبوع الماضي، شملت فصل التيار الكهربائي بالعاصمة والإسكندرية، لمدة ساعة يوميا، عبر تقسيم كل منطقة إلى مربعات سكنية. يبدأ قطع التيار عن المناطق من العاشرة صباحا إلى العاشرة مساء. تمتد فترة الانقطاع بمحافظات الدلتا والصعيد لأكثر من ساعتين يوميا.

وقال المصدر في تصريحاته لوسائل الإعلام: ستخفض الأحمال الكهربائية، لتوفير الغاز الطبيعي والمازوت، للاستفادة من تصديرهما للخارج والحصول على العملة الصعبة، والمساهمة في توفير احتياجات المواطنين من السلع الأساسية.

وقررت الحكومة خفض استهلاك المازوت من 16 ألفاً إلى 8 آلاف طن، والغاز الطبيعي من 120 ألف متر مكعب إلى 80 مليون متر مكعب يوميا. وفقا للمصدر، سيتبع ذلك تعطيل بعض المحطات عن إنتاج الطاقة، وقطع التيار عن مناطق حول العاصمة وشمال الدلتا وطريق اسكندرية - القاهرة الصحراوي، بسبب ارتفاع سرقات الكهرباء إلى نحو 21% من الطاقة الموزعة على الشبكات، بما يفوق 3 أضعاف المعدلات العالمية.

غضب شعبي
أذهلت الأوامر العليا بقطع التيار مديري المحطات وشبكات التوزيع الذين يدركون عدم وجود زيادة في الطلب من المواطنين وتراجع الاستهلاك بالمصانع والشركات والفنادق.

ورغم إعلان المصدر ذاته تراجع وزارة الكهرباء عن خطة الترشيد المستهدفة، بعد أسبوع من التنفيذ لخطة الانقطاعات، مع تذمر واسع بين المواطنين، ومقارنتها بما كان يحدث أثناء حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

فجر تقرير مرصد الكهرباء بجهاز مرفق الكهرباء وحماية المستهلك مفاجأة، الثلاثاء 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بإعلانه أن إجمالي الطاقة المضافة للشبكة الموحدة بلغ 31 ألف ميغاوات، بما يمثل 50% من قدرات التوليد المركبة على الشبكة الموحدة. وبلغ الحد الأقصى للاستهلاك اليومي 26 ألف ميغاوات، والحد الأدنى 16 ألفاً و924 ميغاوات.

تتجه الحكومة إلى إطفاء محطات التوليد والتوزيع لعدم قدرتها على شراء المازوت بالدولار، وتوفير قطع الغيار، وترشيد نفقات التشغيل المستحقة للموظفين يوميا، بعدما أثقلت ميزانية قطاع الكهرباء بديون تزيد عن 550 مليار جنيه

كما أشار المرصد في بيانه إلى عدم وجود خفض في أي أحمال أو فصل إجباري أو تخفيض للأحمال بالتنسيق مع المشتركين، في هذا اليوم، مستشهدا بأن الحمل في اليوم السابق بلغ 25 ألفاً و900 ميغاوات، وأن الاستهلاك يسير على نهجه المعتاد، منذ أشهر، مع وجود فائض باحتياطي التوليد جاهز للاستهلاك يبلغ 18 ألفاً و400 ميغاوات.

وفي تقرير فني مواز للمركز القومي للتحكم في الطاقة التابع لوزارة الكهرباء، أكد أن مؤشر أحمال الكهرباء ظهر في اليوم نفسه باللون الأخضر، بما يعني أن الاستهلاك يفترض به أن يكون طبيعيا طوال اليوم، مع التراجع بشدة أثناء فترة الليل.

ويؤكد خبراء أن عمل محطات التوليد كعادتها، مع انقطاع التيار على نطاقات واسعة، يعني وجود إدارة ممنهجة لقطع التيار، بالتحكم المباشر في لوحات وشبكات التوزيع بالمحافظات.

قرارات الإطفاء
كانت قرارات إطفاء الأنوار قد أدهشت العاملين بمحطات وشبكات التوزيع، الذين يشاهدون شاشات مراكز التحكم المركزية بالعاصمة و15 مركزا رئيسيا بالمحافظات، وشاشات التوزيع في كل منطقة سكنية، حينما طلب منهم تنفيذها دون مناقشة لمصدرها، بينما يؤكد مهندسو شبكات، لــ"العربي الجديد"، ما ذكره تقرير لمرصد الكهرباء أنه "لم يتم قطع التيار بسبب عدم توافر الكهرباء منذ يونيو/ حزيران 2015.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

ونقل مهندسو الشبكات احتجاجات المواطنين، وبخاصة أصحاب المصانع والمحلات التجارية، الذين آلمهم انقطاع التيار المتكرر، على مدار الأسبوع، وسبب لهم خسائر في التشغيل، وهو ما ذكرهم بالمعاناة التي مروا بها خلال الفترة من 2012 إلى 2015، حينما كانوا يقطعون التيار عن المستهلكين، لتخفيف الأحمال، بسبب العجز في توليد الطاقة.

تسعى وزارة الكهرباء إلى دفع المواطنين إلى ترشيد الاستهلاك، وتجنب ارتفاع قيمة الفواتير. وتُظهر الإحصاءات الرسمية انخفاض معدلات الاستهلاك منذ توجه الحكومة لرفع الدعم نهائيا عن الكهرباء، الذي بدأ عام 2015، وفق اتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي، كان يستهدف تنفيذه بالكامل خلال العام المالي 2024 - 2025، تأجل لعام واحد، مع تدهور الجنيه.

ووفقا للتقرير الشهري للبنك المركزي، بلغت نسبة مستهلكي الكهرباء بالمنازل 37% من إجمالي التوليد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والصناعة 25%، والأغراض التجارية نحو 5.3%، والطاقة المصدر عبر شبكة الربط مع الأردن وغزة والسودان 1.5% فقط.

وتُظهر أرقام المركزي تراجعا حادا في استهلاك الصناعة، التي استحوذت على 45% من قدرات التوليد خلال العقد الماضي، مع عدم قدرة الوزارة على تصريف فائض الإنتاج المقدر كليا بنحو 30 ألف ميغاوات للدول المجاورة، حيث تبلغ متوسطات التصدير اليومي نحو 400 ميغاوات فقط.

انعكاسات تراجع الجنيه
أدى تراجع الجنيه بنسبة 57% من قيمته الرسمية أمام الدولار خلال الشهور العشر الأخيرة إلى انخفاض قيمة المبيعات محليا، مع زيادة في كلفة التشغيل. وكانت قيمة إنتاج الكيلووات تبلغ قبل تراجع سعر الجنيه منذ مارس/ آذار 2021، نحو 109 قروش (الجنيه = 100 قرش) وتبيع شركات التوزيع الكهرباء وفق شرائح، تبدأ من 48 قرشا للأولى و58 للثانية و77 للثالثة، تصل إلى جنيه للرابعة، وما بعدها يزيد إلى 145 قرشا لكل كيلووات.

لم يتوقع الخبراء أن تحدث أزمة في الكهرباء، في دولة أنفقت 34 مليار دولار على إقامة محطات التوليد خلال الفترة من 2014 إلى 2018، لرفع قدرات التوليد من 29 ألف ميغاوات إلى 62 ألفاً، بما يفوق الاستهلاك بنسبة 100%

وعادة ما تستخدم شركات الكهرباء فروق البيع للشرائح العليا الموجهة لكبار المستهلكين والمحلات التجارية والمقاولات، لدعم الشرائح الدنيا، لتخفيض فاتورة التشغيل، مع حصولها على الوقود من وزارة البترول بسعر مدعوم، وخاصة الغاز.

وتشتري شركات الكهرباء من وزارة البترول الغاز بسعر 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، أقل 50% عن متوسط البيع لشركات الإسمنت والحديد وثلثي السعر المحدد لمصانع الأسمدة، وبما يوازي 10% من قيمته في السوق العالمية.

ويظهر تقرير الوكالة الدولية للطاقة أن أسعار الطاقة في أوروبا عام 2022 ارتفعت بنحو 10 أضعاف، فوضعت وزارة البترول سعرا لبيع الغاز يبدأ من 40 دولارا ويصل إلى 120 دولارا للمليون وحدة حرارية.

إطفاء الأنوار وفخ الديون

دفعت الأزمة المالية الخانقة الحكومة إلى إطفاء الأنوار في الميادين والمباني العامة والمساجد، وحظرت المسابقات الرياضية الليلية، وأغلقت أبواب المحلات التجارية قبل مواعيدها الرسمية، مستهدفة بيع المزيد من الغاز إلى أوروبا بنحو 450 مليون دولار شهريا.

كما قررت الحكومة تخفيض كمية الغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج محطات توليد الكهرباء بنسبة 15%، لشحنه إلى أوروبا.

لم يتوقع الخبراء أن تحدث أزمة في الكهرباء، في دولة أنفقت 34 مليار دولار على إقامة محطات التوليد خلال الفترة من 2014 إلى 2018، لرفع قدرات التوليد من 29 ألف ميغاوات إلى 62 ألفاً، بما يفوق الاستهلاك بنسبة 100%، في إطار صفقات سياسية جلها بالأمر المباشر مع شركتي "سيمنز" الألمانية و"جنرال إلكتريك" الأميركية.

ووقعت الحكومة في فخ الديون وعدم القدرة على توفير الدولار، فلم تجد وسيلة لتدبيره بصفة عاجلة بدون وقف تشغيل أغلب محطات التوليد التي تديرها شركات الكهرباء العامة، بينما حافظت على استمرار العمل بـ3 محطات توليد تديرها شركة "سيمنز"، بقدرة 14 ألفاً و400 ميغاوات، لضمان سدادها تكاليف التشغيل.

وما زالت المحطات بحوزة المقاول الألماني المنفذ ومدبر التمويل من بنوك أوروبية بقيمة بلغت 8.3 مليارات دولار، ولا تقدر وزارة الكهرباء على تشغليها، ونقل ملكيتها أو بيعها، قبل أن تلتزم بسداد أقساط المحطات واجبة الدفع في مطلع عام 2024.

وكشف انقطاع التيار صفقات أخرى تجري في الخفاء مع الأطراف الدوليين، سمحت للحكومة بانتهاك اتفاقات المناخ كوب 27، التي وقعتها أخيرا بشرم الشيخ، بتخفيض إنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي لتصديره لأوروبا، والسماح لها باستخدام المازوت بدلا من الغاز في توليد الكهرباء.

قرارات متناقضة
وسط اضطراب الحالة الاقتصادية بالداخل والأسعار بالخارج، اتخذت الحكومة قرارات متناقضة، تستهدف زيادة صادرات الغاز بأي وسيلة تمكنها من رفع قيمة صادرات الغاز إلى 500 مليون دولار شهريا.

قال وزير البترول طارق الملا، في بيان ختامي لأعمال عام 2022، إن سياسة الحكومة لترشيد استهلاك الكهرباء منذ أغسطس/ آب الماضي، ساهمت في توفير كميات إضافية من الغاز، والاستفادة من ارتفاع الأسعار العالمية، حيث زادت الصادرات من 7 ملايين طن مكافئ عام 2021 بقيمة 3.5 مليارات دولار إلى 8 ملايين طن بقيمة 8.4 مليارات دولار، بزيادة 171% في الدخل.

ونظرا لعدم وجود أنابيب ربط مع أوروبا، قامت بتسييل 16 مليار متر مكعب من مصنعي إدكو ورشيد، لتصديره إلى القارة العجوز، أملا في الحصول على عوائد أعلى مقابل الغاز الذي تنتجه محليا والتي تستورده من إسرائيل بنحو 1.63 مليار دولار سنويا.

وسط اضطراب الحالة الاقتصادية بالداخل والأسعار بالخارج، اتخذت الحكومة قرارات متناقضة، تستهدف زيادة صادرات الغاز بأي وسيلة تمكنها من رفع قيمة الصادرات 

ويميل الميزان السلعي للمواد البترولية إلى العجز دائما. ويشير البنك المركزي إلى استيراد الحكومة ورادات بترولية بنحو 13 ملياراً و544 مليون دولار، بينما بلغت الصادرات 17 ملياراً و977 مليون مليون دولار، بعجز صاف بلغ 4 مليارات و432 مليون دولار في العام المالي 2021 - 2022.

تؤكد مؤسسة "ريستاد إنرجي" النرويجية في تقرير أصدرته في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن مصر وجهت 15% فقط من الغاز المصدر إلى أوروبا العام الماضي، في وقت تتعرض فيه بعض حقول الغاز للنضوب، إذ أنتجت مصر رقما قياسيا من الغاز عام 2021، بلغ 70 مليار متر مكعب، استهلكت منها 63 مليارا، وهو ما وصفه خبراء في القطاع بأنه استنزاف للثروة في مواجهة أزمة مالية.

وفقا لبرنامج "موفي" الذي التزمت به الحكومة في قمة المناخ، نوفمبر الماضي، تتوقف مصر عن تشغيل 5 آلاف ميغاوات من محطات توليد الغاز، اعتبارا من يناير/ كانون الثاني الحالي، لإفساح المجال للاستثمار الخاص في إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة، وتشغيل المشروعات المعطل إدخالها على الشبكة الموحدة، تبلغ قدراتها 6 آلاف ميغاوات.

يسعى الاتفاق إلى رفع معدلات التوليد من الطاقة المتجددة من 4.9% حاليا إلى 10.5% من الإنتاج الكلي خلال أسابيع، بدمج مشروعات منفذة لم تتفق الحكومة معها عل تسعير الكهرباء، والعمل على زيادتها إلى 20%، بحلول عام 2026. وتقدمت الحكومة ببرنامج "موفي" للحصول على تمويل بقروض جديدة.

ثم أيقنت الحكومة صعوبة حصولها على تمويل "موفي" مع تصاعد الأزمة الاقتصادية الدولية، وارتفاع الفائدة على العملات الرئيسية، ووجود مخاوف من قدرة مصر على الالتزام بسداد ديونها التي تصاعدت بصورة مخيفة للمستثمرين، لذلك عملت على التوسع في إنتاج الكهرباء من المازوت، وضغط نفقات التشغيل بقطع إمداد الوقود عن المحطات والتي دفعت شركات التوزيع إلى وضع جدول زمني لقطع التيار الكهربائي عن المواطنين، بهدف خفض الخسائر المترتبة على دعم شرائح الكهرباء.

وفي ظل غياب الرقابة البرلمانية والشعبية، لم تهتم الحكومة وشركات الكهرباء بالمخاطر الاجتماعية والأمنية المترتبة على قطع التيار بصورة متكررة يوميا، مع تعرض الصناعة والزراعة والمنشآت السياحية لخسائر فادحة في التشغيل.

 

المساهمون