الحكومات و"الكذب الناعم" على المواطن

21 يونيو 2023
تخلط الحكومة ما بين سياسة البيع المباشر والتخلص السريع من أصول الدولة (فرانس برس)
+ الخط -

تمارس معظم الحكومات العربية سياسة الخداع والكذب الناعم على المواطن دون خجل وبشكل متواصل، فالحكومات لا تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقة، بل تطلق عليها أسماء فخيمة ورنانة وأحياناً "دلع"، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالغلاء وبيع أصول الدولة وتهاوي العملة الوطنية وإهدار المال العام والفساد والخضوع لشروط الدائنين الدوليين المذلّة.

فالأموال الأجنبية الساخنة التي تستثمر في أدوات الدين الحكومية مثل السندات وأذون الخزانة وتغترف المليارات من خزانة الدولة دون أي مجهود من قبل المستثمر أو حتى توفير فرصة عمل واحدة تطلق عليها الحكومات اسم "استثمارات خارجية، وتدفقات نقد أجنبي، وأموال أجنبية طازجة".

الحكومات تعتبر أن الأموال الساخنة وبيع أصول الدولة من بنوك وشركات هي استثمارات أجنبية 

وعندما يزيد تدفق هذه الأموال السامة وتتسرب في الأسواق تتعامل معها الحكومات ووسائل الإعلام المحسوبة عليها على أنها بمثابة "زيادة ثقة من قبل المستثمرين في الاقتصاد والسياسة المالية للدولة، واعتراف بالاستقرار السياسي والأمني"، بل وتزيد قائلة إن "الاقتصاد يمتلك القدرة على جذب المزيد من التدفقات الأجنبية، رغم شدة الضغوط الخارجية والتحديات العالمية".

وعمليات الخصخصة وبيع أصول الدولة من بنوك وشركات تطلق عليها الحكومات اسم "استثمارات مباشرة"، والملفت أنه يتم إدراجها في ميزان المدفوعات ومؤشرات الاقتصاد الكلي ضمن مكون وبند الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وهنا تخلط الحكومة ما بين سياسة البيع المباشر والتخلص السريع من أصول الدولة وبيعها للأجانب، وبين مستثمرين أجانب حقيقيين حولوا أموالاً من الخارج لإقامة مشروعات إنتاجية، سواء في مجال الصناعة أو الزراعة والسياحة والخدمات وغيرها، وهؤلاء وفروا فرص عمل وساهموا في زيادة الصادرات والحد من الواردات.

وعندما تستنجد الحكومات بالدائنين الدوليين، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، لإنقاذها من أزمة مالية حادة وشح في الدولار تخرج على الرأي العام محاولة تبرير هذه الخطوة تحت اسم لامع وفخيم ومبهج هو "اطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي".

وكأن عملية إصلاح الاقتصاد تتطلب تدخلاً خارجياً وارتهاناً للدائنين والخضوع لشروط وإملاءات تتعارض مع السيادة الوطنية.

عندما تخفض الحكومات قيمة العملة تسميها تعويم أو تحرير سوق الصرف أو إتاحة مرونة أكبر لسعر العملة، وكأن تهاوي العملات تعني محاولة إنقاذها من الغرق

وعندما تتعثر مؤسسات الدولة المالية وتتكبد شركاتها خسائر فادحة بسبب الفساد ونهب المال العام وسوء الإدارة تعلن الحكومات عن محاولة وقف هذا النزيف تحت مسمى شيك هو "إعادة الهيكلة"، وتتخلص من الشركات المتعثرة تحت اسم الخصخصة وتطوير القطاع العام.

وعندما تقرر الحكومات خفض قيمة عملاتها المحلية بتعليمات من الخارج والمؤسسات الممولة تطلق على هذا العمل أسماء دلع عدة ما بين تعويم أو تحرير سوق الصرف أو إتاحة مرونة أكبر في سوق الصرف الأجنبي، وكأن تهاوي قيمة العملات الوطنية تعني محاولة إنقاذها من الغرق.

وعندما ترفع الحكومات أسعار السلع ومنها الوقود تخرج بكل "بجاحة" لتعلن أن هذه الزيادات المتواصلة تصب في مصلحة المواطن وترفع من مستواه المعيشي وتعيد ضبط الأسواق وتوازن بين العرض والطلب، هذا يحدث بكل صفاقة.

موقف
التحديثات الحية

يتكرر المشهد مع أي زيادات في الضرائب والرسوم الحكومية ورفع فواتير المياه والكهرباء والمواصلات العامة والاتصالات وغيرها من المنافع العامة، وكأن اغتراف ما تبقى في جيب المواطن "المخروم" أصلا هو لصالحه، وليس وبالاً عليه وعلى من يعيلهم.

وعندما تحصل الحكومة على قروض خارجية، هنا تتنوع المسميات ما بين الحصول على ودائع خارجية كما يحدث مع أموال دول الخليج، أو الحصول على ائتمان أو تسهيلات خارجية، أو إصدار طبعة جديدة من السندات الدولية والصكوك السيادية.

حتى السندات باتت تحمل أسماء دلع هي الأخرى، فالحكومة تعتزم طرح سندات خضراء، والحكومة اقتربت من إصدار سندات الباندا أو سندات ساموراي.

على الحكومات أن تسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة وتوصيفاتها الدقية إن أرادت أن تحظى بثقة المواطن الذي بات يفهم كل شيء

على الحكومات أن تسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة وتوصيفاتها الدقيقة إن أرادت أن تحظى بثقة المواطن الذي بات يفهم كل شيء من حوله.

صحيح أنه يصمت كثيرا، لكن ليس بسبب نجاح وسائل الخداع والكذب الممنهجة وحملات غسل الأدمغة والبيانات المضللة، بل ربما بسبب الخوف والقبضة الأمنية، وربما لأسباب أخرى يعرفها هو أكثر من حكومته التي تتذاكى عليه.

المساهمون