هل تعي مصر الدرس الأرجنتيني؟

03 يونيو 2020
علامات الاستفهام أحاطت بقرض مصر من الصندوق(فرانس برس)
+ الخط -


لم تتمكن الأرجنتين من دفع الفائدة (الكوبونات) المستحقة على سنداتها قبل عشرة أيام، والمقدرة قيمتها بنحو نصف مليار دولار، لتقترب مرة أخرى من الإفلاس للمرة التاسعة أو العاشرة (لم يتفق الاقتصاديون) في تاريخها، والثالثة خلال القرن الحالي، في وقتٍ تتعرض فيه كل حكومات العالم، بما فيها الاقتصادات الكبرى، لظروف اقتصادية ومالية شديدة القسوة، نتيجة لوباء كوفيد 19 والجهود المبذولة لاحتوائه، التي تسببت في "الإغلاق الكبير"، ليتراجع النمو الاقتصادي وتزداد معدلات البطالة وترتفع مديونية الحكومات إلى مستويات غير مسبوقة. 

ورغم التخلف عن السداد، الذي يعني من الناحية العملية أن الدولة اللاتينية قد أفلست بالفعل، إلا أن الرئيس ألبرتو فرنانديز أعلن دخول حكومته في مفاوضات مع الدائنين، من أجل إعادة هيكلة ديون تقدر بنحو 66 مليار دولار، من إجمالي ديون خارجية تقترب من 280 مليار دولار، تمثل أكثر من 60% من الناتج المحلي للبلد صاحب ثاني أكبر اقتصاد في قارة أميركا الجنوبية، بعد البرازيل. وقال فرنانديز "أريد أن يعرف العالم أننا أمة تلتزم بسداد ما عليها من ديون".

وبعد إفلاسات متعددة، وتخلف عن سداد فوائد في أكثر من مناسبة، فقدت الأرجنتين سمعتها في الأسواق المالية، وصَعُبَ عليها الحصول على قروض أو بيع سندات، قبل أن يصل الرئيس ماوريسيو ماكري، المدعوم من أميركا، إلى الحكم. ومع سياساته الرأسمالية المتحررة، عادت ثقة المستثمرين للبلد الذي تصوروا أنه لن يسقط مجدداً، وهو المدعوم من القوة العظمى الوحيدة في العالم، فتمكنت البلاد من العودة إلى سوق السندات العالمية مرة أخرى.

في 2017، وفي علامة على عودة الثقة في اقتصاد البلاد بعد أقل من عامين من آخر إفلاس لها، تمكنت الأرجنتين من بيع سندات تستحق بعد مائة عام، وكان الإقبال عليها كبيراً، متجاوزاً ثلاثة أضعاف المبلغ المعروض للبيع.
بعدها بعامٍ واحد، أتم صندوق النقد الدولي اتفاقه المشروط مع حكومة الرئيس ماكري، الذي نص على منحها تسهيلاً بمبلغ 57 مليار دولار، يعد الأكبر في تاريخ الصندوق، مقابل التزامها بالعديد من السياسات التي أطلق عليها اسمه المفضل "برنامج الإصلاح الاقتصادي".

لكن بعد شهور قليلة من ذلك الاتفاق، وتحديداً مع خسارة ماكري للانتخابات التمهيدية لصالح رئيس ذي ميول يسارية، دخلت البلاد مرة أخرى نفقاً مظلماً، بدأ بمحاولات إعادة جدولة ما يقرب من مائة مليار دولار من الديون التي اقترب موعد سدادها، ثم جاءت أزمة وباء كوفيد 19، لتجهز على ما تبقى من عافية اقتصادية للبلد المأزوم.

التقيت أحد المديرين التنفيذيين بصندوق النقد الدولي قبل نهاية العام الماضي، وكانت الأزمة محتدمة والمستثمرون يتألمون بعد أن فقدت السندات التي يمتلكونها ما يقرب من ثلثي قيمتها، فسألته عما هم (صندوق النقد) فاعلون مع الأرجنتين. وجاءتني إجابته الصريحة، بلا تفكير، "سننظر ماذا ترى أميركا ونفعله!".

بعدها، انهمك المسؤول الكبير، وكأنه يحاول تبرير ما خرج من فمه على غير رغبة منه، في شرح الدوافع السياسية التي تقف في أغلب الأحيان وراء قرارات الصندوق بإقراض الدول، وكيف أن الولايات المتحدة، باعتبارها الممول الأكبر له، تكون صاحبة الكلمة العليا في تحديد من يحصل على قروض ومن يتم الضغط عليه قبل أن يحصل على قروض.

استطرد بعدها المسؤول في حديثه عن بلادي مصر، فلمعت أمام عيني كل لمبات الإضاءة، واختفت علامات الاستفهام، التي أحاطت بظروف اتفاق مصر مع صندوق النقد أواخر عام 2016 بمبلغ 12 مليار دولار، ثم ما تم الاتفاق عليه من "كمالة" للقرض، بمبلغ 2.77 مليار دولار، الشهر الماضي، بخلاف وعود أخرى.
أوضحت كلمات الرجل أن مصر حصلت على القرض في العام 2016 بدعمٍ من اثنين من أكبر داعمي الصندوق، وهما الولايات المتحدة والسعودية، بعد أن تأكدت لهما قدرة النظام المصري وقتها على تحقيق أهدافهما في القضاء على نفوذ الإسلام السياسي في المنطقة، وتنفيذ أجندات خاصة بتسوية صراعات استمرت لعقود في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية استراتيجية للولايات المتحدة.

لم يدرك المصريون وقتها أنهم قد دفعوا الثمن بالفعل قبل التوصل إلى الاتفاق، ولذلك استمروا في سداد المزيد من الفواتير، في صورة تعويم العملة المصرية حتى فقدت أكثر من 60% من قيمتها، وإلغاء للنسبة الأعظم من دعم الوقود والطاقة المقدم للمواطنين، وتوجه نحو بيع العديد من الشركات المملوكة للدولة، رغم معرفة الحكومة بما يمليه ذلك من تسريح لأعداد كبيرة من العمالة.

تشابهت البدايات حين اقترضت كل من الأرجنتين ومصر بمساعدات سياسية وبدعم من كبار مساهمي الصندوق، وحين فرضت عليهما العديد من خطوات الإصلاح الاقتصادي، وحين استمرتا في تحقيق عجز في الحساب الجاري واستسهلتا الاقتراض، الأمر الذي يثير الكثير من القلق من تطابق ما سيؤول إليه وضع مصر الاقتصادي مع الدولة التي أشهرت إفلاسها، رغم ما قيل عن حصولها على "شهادة ثقة" من صندوق النقد الدولي، الذي أقرضها مليارات الدولارات.

أقرَضَنا صندوق النقد مليارات الدولارات، وفرض شروطه لإصلاح الاقتصاد، وفتحِه أمام المستثمرين الأجانب، بالمنهج الذي ارتآه مناسباً، ولم يتوقف أمام توسع البلاد في الاقتراض الخارجي، حتى وصل الدين المصري الخارجي إلى 238% مما كان عليه وقت الحصول على قرض الصندوق، والتهمت فوائد الدين العام ما يقرب من 80% من إيرادات الدولة، ونزل أكثر من 5 ملايين مواطن مصري جديد تحت خط الفقر، وأصبح ثلثا المصريين، وفقاً لأرقام البنك الدولي، إما فقراء، أو معرضين للنزول تحت خط الفقر.
ومع أول تعثر لموارد الدولة، سارع الصندوق إلى الموافقة على القرض الجديد بمبلغ 2.77 مليار، ووعد بمنح تسهيل بمبلغ 5 مليارات دولار أخرى، مع توفير 4 مليارات دولار إضافية من مصادر خارج الصندوق. فهل يعمل الصندوق على إخراجنا من الأزمة، أم تراه يترك لنا الحبل لنلفه على أعناقنا، قبل أن يطلب ثمناً باهظاً لكل ذلك؟
المساهمون