"الحرب العالمية الثالثة": إطارات تهتز بلا توقف

"الحرب العالمية الثالثة": إطارات تهتز بلا توقف

08 أكتوبر 2023
لم يقع المخرج في فخ شرح فرضية ما (IMDb)
+ الخط -

من المُبكر اعتبار المخرج الإيراني هومن سيدي (43 عاماً) أستاذاً في الأسلوب، لكنهُ بالتأكيد تمكّن من أدواته، وبدأ بتوظيفها بوعيٍ على الشاشة. عمله الأخير "الحرب العالمية الثالثة" الصادر في 2022، وسيمثل إيران في ترشيحات جوائز أوسكار عن فئة أفضل فيلم دولي، يحمل بصمة مبدعه.
منهُ سننطلق لقراءة مسيرة هومن الذي -على عكس أبناء جيله- لم يتبنّ أسلوب أصغر فرهادي أو عباس كيارستامي، وأثبت أن التأثر والإشارة للأعمال العالمية لا يلغي الأصالة.
تبدأ رحلة البطل المضاد بشكلٍ مُخاتل. فبعد حديثٍ بلغة الإشارة في منزل دعارة مع امرأة لا تتضح معالمها على المرآة، نعتقد أن البطل أصم وأبكم. يروي شكيب (محسن تنابنده) أنه شَهِدَ على حادثة صدم سيارة لكلبة مُرضعة أدى لقتلها، وعند سؤال السيدة عن حال الرضيع، لم يأت الجواب مباشراً، بل بنظرةٍ وتلميح، وهو ما يتقنه هومن ليروي حكايته.
شكيب عاملٌ مياوم، يحملُ كيساً فيه كل ما يملك، تقله شاحنة مع عمال آخرين إلى وجهة مجهولة. الأرض الجرداء التي يصلون إليها مسوّرة بأسلاك شائكة، مؤطرة بمعنى آخر، وهي مسرح أحداث فيلمنا، وأيضاً اللوكيشين للفيلم الذي يصور داخله، هذه الثيمة "فيلم داخل فيلم" ليست جديدة في السينما الإيرانية. من هذا المكان وما يفرزه من سلطة هرمية يتربع المنتج والمخرج على قمتها، نستخلص أخبار المجتمع ومواضيعه وكوارثه وأحواله.
لم يقع المخرج في فخ شرح فرضية ما، كان رشيقاً بالتنقل بينها وواثقاً بقدرته على توظيفها لصالحه، دليلٌ على التخطيط المتين في مرحلة ما قبل الإنتاج. هذا ما يعطينا مشهداً ذا حرفية عالية كمشهد إجبار العمال المياومين على ارتداء ملابس السجن وزجهم في تمثيل مشهد حرق البشر في غرف الغاز.
يبدأ شكيب عمله حارساً ليلياً في موقع التصوير بعدما علِمَ المُنتج أنه فقد منزله وزوجته وابنه في الزلزال، كتلميح لكيارستامي وثلاثيته "الكوكر". ينتقل شكيب لينام في المنزل مسبق الصنع (منزل هتلر) بدل غرف الغاز. ثم يختار المخرج شكيب ليؤدي دور هتلر، بدل الممثل الذي أصابته ذبحة صدرية، تتصاعد الأحداث بتسارع أكبر بعد ارتدائه لبدلة هتلر. يتماهى هتلر الحقيقي في وعينا للحظات وتشارلي شابلن في فيلم The Great Dictator في لحظات أخرى، فتختلط المأساة والملهاة في قالب عبثي.
يقُسم العرض إلى كتل سردية متجانسة، يفصل بينها استراحة بصرية للمشاهد، تتمثل باتصال فيديو يجريه شكيب مع لادان (مهسا حجازي) عاملة الجنس الصماء البكماء، يثرثران خلاله بلغة الإشارة، الاستراحة تفصل أيضاً بين المشاهد التي يصورها الفيلم داخل الفيلم. 
يتصاعد العنف رمزياً وعاطفياً وجسدياً بشكل مطرد في الفيلم، يفلت من عقاله في المشهد الأكثر فوضوية عندما يبدأ العراك بين شكيب وطاقم العمل وعلى رأسهم المنتج، يتمرغ الجميع في الوحل، ويستمر المنتج بالتنبيه على عدم لمس وجه شكيب لأهميته في الفيلم.


السرد قائم على أسلوب مألوف يتزايد فيه التشويق عبر إزالة اللحظات المهمة من الفيلم. تظهر بصمة العمل الجماعي على السيناريو (هومن، وأريان فازيردافتاري، وآزاد جعفريان)، يأتي السرد مطابقاً لفيلم About Elly لأصغر فرهادي الصادر عام 2009 (تشارك آزاد جعفريان وفرهادي بكتابة السيناريو)، إلا أن الظروف في فيلم هومن متطرفة أكثر، ومتناقضة من حيث الشكل الدرامي الواقعي الذي يخرجه فرهادي عن السيطرة في أفلامه.
بايمان شادمانفار (سينماتوغراف) يخطط بعناية لكادرات لا تنسى، يعلَم نوعية الحياة التي يريدها هومن في فيلمه: حياة غاضبة وقلقة ومرتبكة وتحمل الكثير من الازدراء، ترجمها بإيمان في عمله الثالث مع هومن بإطارات تهتز من دون توقف، تؤطر عملية تحويل شكيب إلى وحش. 
يوظف التاريخ في الفيلم كخلفية للحدث من دون أن يعلق عليه، يصور التاريخ الخاص المحدد كملهاة، وقد أتى على لسان العديد من الشخصيات وتحديداً مساعدة المخرج أن الفيلم مهزلة ويحاول كتابة التاريخ مرة أخرى. في المقابل تأتي المأساة من التصوير العام للعمل فتكرر أحداث حقبة مأساوية سابقة دون استحضارها بشكل مباشر. 

المساهمون