المنتجات المميزة... لسنا الوحيدين لكننا الأجشع

المنتجات المميزة... لسنا الوحيدين لكننا الأجشع

12 يوليو 2023
"الإصدار المميز" بات هو السلعة في حد ذاتها وليس ما يقدمه من ميزات (جيف جيه ميتشل/Getty
+ الخط -

بدءاً من غرف الفنادق وتذاكر الطيران، مروراً بما تغص به حياتنا اليومية من تطبيقات هاتفية وأجهزة إلكترونية، وصولاً إلى الإضافات الخاصة التي يمكن وضعها على وجبة طعام أغلى ثمناً من مثيلتها "العادية"؛ هناك دوماً نسخة أفضل وإصدار أكثر تميزاً مما يمكن أن يحظى به العميل. وعلى عاتقه فقط يقع اختيار ما يناسبه من سلع تجارية قد لا يبدي مضمونها اختلافاً كبيراً كالذي تظهره رقعة السعر.
تعرف سياسات الارتقاء بالمنتجات العادية إلى مستوى أكثر كفاءة وأعلى سعراً بالـPremiumization، وهي فكرة قديمة جداً في عالم الاقتصاد، لكنها تثير اليوم جدلاً أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع دخولها عوالم التكنولوجيا والسفر والسيارات والأجهزة الإلكترونية، وصولاً إلى مجالات الطبابة والتعليم والغذاء.

عُرفت منتجات "بريميوم" في السابق بأنها منتجات ذات جودة عالية، وتصميم رفيع، وأداء متفوق، فضلاً عن وجود عوامل أخرى تميزها، مثل طبيعة المكونات المستخدمة في تصنيعها، والتفرد في التصميم والابتكار التقني، وجودة الخدمة المقدمة مع المنتج، ناهيك عما تضيفه اعتبارات حماية البيئة والسلامة العامة على قيمتها الإجمالية. جعلت كل تلك المعايير العالية منتجات "بريميوم" حكراً على مجموعة محددة من العلامات التجارية المرموقة، وهي شركات اكتسبت سمعتها على مدار أعوام طويلة، مثل رولكس وديور ولوي فويتون وشانيل، وبات صناعها ومبتكروها قدوة للمصنعين الجدد ممن يبحثون لسلعهم عن مكان متميز خارج الرفوف المكتظة بسلع متشابهة.

اتسع مفهوم "بريميوم" منذ ذلك الحين كثيراً، إذ ساهمت الظروف الاقتصادية والبيئية والصحية التي عاشها العالم أخيراً، ومنها انتشار جائحة كوفيد-19، في إعادة تعريف هذا المنتج، فتبنت الإصدارات المميزة مع مرور الزمن نهجاً اقتصادياً وتسويقياً مغايراً، وسعى الصناع في مختلف المجالات إلى تعزيز منتجاتهم الاعتيادية، بمزايا وخدمات إضافية، كما اعتمد عديد من الشركات العالمية على مبدأ الترويج لإصدارات منخفضة الكلفة والكفاءة، بالتزامن مع إصدار منتجاتها الأغلى ثمناً، وكل ذلك تحت الاسم التجاري نفسه، ومنها شركة آبل التي تقدم منتجات بأسعار متوسطة، وأخرى متميزة مثل iPhone وMacBook، في حين تصدر شركة سامسونغ مجموعة من المنتجات المتميزة، ومنها سلسلتا الهواتف الذكية Galaxy S وGalaxy Note، لكنها تقدم خيارات توفيرية أيضاً عبر خطي Galaxy A وGalaxy M، أما شركة نايكي فتروج لملابس رياضية "بريميوم"، بالتوازي مع سلسلتها ذات الأسعار المنخفضة باسم Nike Sportswear.

في السياق نفسه، تتيح منصة الفيديو الأميركية، "يوتيوب"، اشتراكاً خاصاً بخدمة YouTube Premium التي تؤمن وصولاً خالياً من الإعلانات إلى المحتوى، فضلاً عن الوصول إلى برامج YouTube Originals التي تُنتج بالتعاون مع منشئي الموقع، وكذلك تتوافر نسخ Premium عن معظم تطبيقات تعديل الصور وفلترتها، ومنها تطبيق Perfect Me الذي يقفل ميزاته الأكثر جودة، كما يدعي، لدافع السعر الأعلى.

يروج لفكرة أن منتجات "بريميوم" غالباً ما تكون مرتفعة التكلفة؛ لأنها تختلف بشكل ملحوظ عن تلك الأكثر اقتصادية، وتتيح للأفراد الاستمتاع بميزات إضافية وتجربة متميزة. لكن تلك المزاعم تظل عرضة للشك من قبل كثير من المستهلكين، فحتى لو كانت المنتجات تستحق ما تساويه من نقود زائدة فعلاً، إلا أنه من غير الممكن، إن لم يكن مستحيلاً، اختبار جودة المنتج المزعومة من قبل المشترين؛ من الصعب معرفة كيف يختلف كوب القهوة المميز عن الآخر العادي في "ستاربكس"، وهو أمر ينطبق على كثير من السلع الأساسية غير القابلة للتطوير أو التعديل بشكل دراماتيكي، خاصة حينما تصدر عن الشركة المنتجة ذاتها، مثل صلصة الكاتشب التي أنتجتها شركة Heinz ضمن مجموعة صلصات "بريميوم"، صنّعتها الشركة الأميركية استجابة لفترة الحجر الصحي، بهدف الترويح عن أنفس المستهلكين الذين فُرض عليهم الطبخ منزلياً خلال فترة الإغلاق.

تشير تلك الفروقات الميكروبية في وضع المنتج النهائي، والتي ربما تحتاج إلى عين خبيرة لالتقاطها، إلى أن كثيراً من منتجات "بريميوم" ليست إلا سلعاً مكررة بأسماء وأسعار مغايرة، يعاد تدويرها ثم تصديرها إلى السوق بسرديات تظهرها أكثر جاذبية في نظر مستخدميها المحتملين، وذلك بغية توسيع هامش الربح، من دون زيادة تكاليف الإنتاج، لتغدو تلك السلع مرادفاً حديثاً لاستراتيجية التضحية التي اعتمدتها الشركات العالمية لزيادة حجم مبيعاتها خلال الركود الاقتصادي، وذلك عبر بيع منتجات متقشفة ومتكيفة مع الواقع، يمكن للناس شراؤها بسهولة.

موسيقى
التحديثات الحية

تبدو تلك المنتجات إنقاذاً لذوي الدخل المحدود و"تضحية" سخية من صناعها، إلا أنها ليست في واقع الأمر إلا إنقاذاً لحال الشركة المنتجة نفسها، ووسيلة لمقاومة الأزمات المالية التي تعصف بأرباحها. خلافاً لمنتجات التضحية، لا تبدو منتجات "بريميوم" متقشفة أو متواضعة على الإطلاق، بل هي باهظة ومتألقة، خاصة أن "الإصدار المميز" بات هو السلعة في حد ذاتها، وليس ما يقدمه من ميزات جديدة لا يمكن الحصول عليها مع مثيله المجاني.

يغوي الإصدار المميز من يضمرون رغبة بإنفاق المال من دون أن يكون لديهم كثير منه حتى. ومن خلال منتجاته اللماعة، يتماهى أبناء الطبقة الوسطى مع أفراد الطبقات الثرية، وينخرطون في وهم الحياة الأكثر رفاهية ورخاءً.

كل ذلك يحدث من خلال زيادات بسيطة على السعر فقط، إذ تمنح الجودة المضاعفة مبرراً قوياً للشركات لرفع أسعارها، حالها حال التضخم الاقتصادي الذي وضع حجة مشروعة للغلاء لمدة طويلة، حتى إنه ساهم في تعزيز بعض الصناعات أيضاً، فحين خاضت الولايات المتحدة أزمة الركود الحاد خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، هرع كثيرون لتخفيض نفقاتهم، ما أثر سلباً في الأسواق الاقتصادية عموماً، باستثناءات قليلة، ومنها شركة إستي لودر لمستحضرات التجميل التي كانت قد سجلت مبيعاتها ارتفاعاً غير مسبوق حينها. أكدت تلك النتائج أن النساء كن يبحثن عن وسيلة للشعور بالرضا في ظل الوضع السيئ، وتلك واحدة من أهم غايات المنتجات الفاخرة اليوم، فهي خيار نموذجي للباحثين عن الشعور بالرضا في خضم الأوقات العصيبة، كالحروب والأزمات الاقتصادية، وغيرها من الصعوبات التي يغص بها العالم اليوم.

يمكن أن تؤدي الاختلافات في السعر والوصول لمنتجات البريميوم إلى نوع من الفصل الاجتماعي، والتفرقة القائمة على أساس السعر، فثمنها الباهظ يجعلها متاحة فقط للأفراد الذين يمتلكون القدرة المالية الكافية لشرائها، ما يخلق بدوره فصلاً اجتماعياً وثقافياً بين الأفراد، بناءً على الدخل والثروة. ومع أن بعض العلامات التجارية تدعي جذب العملاء من خلفيات اقتصادية متنوعة، مثل "أديداس"، إلا أن هذه الفكرة أثبتت فشلها مرات عدة، فهي لا تنسجم مع تطلعات الأثرياء الذين يبحثون عن تجربة خاصة، ويريدون شراء شيء لا يستطيع الآخرون شراءه؛ تمتلك "فولكس فاغن" سيارات أودي وبنتلي ولامبورغيني وبورش وغيرها، وكل واحدة منها تستهدف مجموعة مختلفة من العملاء، لذا كان من الضروري أن تتميز كل واحدة منها بعلامة تجارية فارقة.

تنطبق هذه القاعدة التجارية الشهيرة "إما بسعر رخيص للجميع، أو بسعر مرتفع لقلة"، على منتجات "بريميوم" أيضاً، فمع أن بعضها يسوق له على أنه منتج متاح للجميع من ناحية السعر، إلا أنه موجه في واقع الأمر إلى الطبقات الوسطى تحديداً، لحثهم على القيام بعمليات شراء أغلى ثمناً، واستنزاف الطبقات القابعة أسفل الهرم الاقتصادي إسوة بالزبائن "المميزين" إن وجدوا.

تفتح المنتجات هذه عالماً واسعاً من الخدمات المتطورة وذات الجودة العالية والكفاءة أمام الباحثين عنها، وبعضها يفي بوعده فعلاً بما يقدمه من خدمات نوعية ومميزة، لكنها تطرح أيضاً أسئلة عديدة حول الاقتصاد المعاصر وتوجهاته، وتحمل في طياتها خطر التحول إلى وسيلة ربحية جديدة لصالح شركات لا تهتم إلا بنبش ما تبقى من محفظات مستخدميها الأفقر، خادعة إياهم بوهم "التميز".

المساهمون