لم يظنّ أهالي مدينة الرقّة في شرق سورية، أن مدينتهم ستصبح في عين عاصفة قضت على الأخضر واليابس، وجرّت ويلات لا تُحصى، من فقد ونزوح وهجرة وخوف، في قلب المحافظة التي تعاني منذ عقود من إهمال وإقصاء وتهميش.
أوّل من أمس، عادت الرقّة إلى الواجهة الإعلامية مع انطلاق الحملة العسكرية لاستعادتها من يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وكانت "قوات سوريا الديمقراطية" التي أنشئت أواخر العام الفائت وتضمّ مقاتلين ينتمون إلى فصائل كردية وأخرى عربية وتركمانية - وحدات حماية الشعب ثقلها الأساسي - قد أعلنت الثلاثاء، في 24 مايو/ أيار الجاري، بدء عملية عسكرية انطلاقاً من ريف الرقّة الشمالي الذي سيطرت عليه الوحدات منتصف العام الفائت. يُذكر أنّ تنظيم "داعش" كان قد فرض سيطرته على محافظة الرقّة بالكامل في عام 2014 إثر طرده فصائل تابعة للمعارضة السورية كانت تسيطر عليها في أوائل عام 2013. هكذا، تحوّلت إلى أبرز ولاياته في سورية، فيما يعدّها كثيرون أهم معاقله في "الشام"، في مقابل الموصل أهم معاقله في العراق.
على الرغم من أنّ حركة النزوح والهجرة من الرقّة (بدأت في عام 2014) تعدّ الأكبر في تاريخ المدينة المعاصر، إلا أنّ أكثر من 500 ألف مدنيّ (تقديرات لا إحصاءات) ما زالوا داخل المدينة. تجدر الإشارة إلى أنّ كثيرين من هؤلاء نزحوا من محافظات سورية أخرى، وهم يعيشون وسط ظروف اقتصادية صعبة في ظلّ ارتفاع جنوني في الأسعار وبطالة مستشرية وندرة في الخدمات. كذلك، يعانون من تردّي الخدمات الطبية، نتيجة تدمير المراكز الصحيّة بأكثرها، إثر غارات لطيران النظام السوري أو طيران التحالف الدولي أو الطيران الروسي.
من داخل مدينة الرقّة، يقول الناشط أبو البتول إنّ "الأهالي منقسمون إلى قسمَين. الأوّل بدأ بالفعل بالنزوح إلى الريف، حيث لا يقف التنظيم حائلاً دون ذلك. هو يسمح للعائلات بالخروج من المدينة، شرط عدم تجاوز حدود المحافظة. أمّا القسم الثاني، فغير قادر على النزوح بسبب قلة الموارد المالية التي تساعده في النزوح المكلف. لذا اضطر إلى البقاء منتظراً الفرج أو الموت". ويؤكد أبو البتول، في حديث مع "العربي الجديد" عبر "سكايب"، أنّ التنظيم لا يمانع خروج من يرهن ممتلكاته، إلى خارج "ولاية الرقة". يضيف: "منذ أكثر من شهر، بدأ التنظيم يسمح لمن يرغب بالخروج من المحافظة شريطة أن يقدّم كل الأوراق التي تثبت ملكيته لأرض أو منزل أو عقار، على أن يفقد ممتلكاته في حال عدم عودته ضمن فترة زمنية محددة".
ويوضح أبو البتول أنّ الخوف والقلق من "المجهول المقبل" يتسيّد المشهد في مدينة الرقّة، لافتاً إلى خلوّ الأسواق من المشترين على خلفيّة هذا الخوف ونزوح عدد كبير إلى الأرياف القريبة. يضيف: "عدت قبل قليل من جولة في المدينة، فوجدتها شاحبة وخائفة تنتظر المجهول وتخشاه. هي سوف تدفع بلا شكّ ضريبة ثقيلة، ربما هي غير قادرة على تحمّلها". ولدى سؤاله عن أبرز مصادر الخوف، مع بدء حملة عسكرية من المتوقّع ألا تنتهي قريباً، يجيب: "عوامل الخوف متعددة ومتشعّبة. لكن بالإمكان القول إنّ ثمّة خوفاً من القتل العبثي بقصف جويّ، وخوفاً من تدمير المدينة كما حصل في أكثر من مدينة سوريّة، وخوفاً من انتقام يطاول مدنيّين أبرياء لا ذنب لهم بعدما يؤخذون بجريرة التنظيم".
من جهة أخرى، يشير إلى خشية واضحة لدى أهالي ريف الرقّة من كساد محاصيلهم الزراعية وهي كلّ ما يملكون. يقول: "بدأ موسم حصاد القمح، وثمّة ندرة في المحاصيل. وفي حال حصد الفلاحون حقولهم، فإنّهم يخشون من عدم قدرتهم على تسويقها". ويؤكّد أنّ "ثمّة خوفاً حقيقياً يتملّك الجميع هنا، من حصار طويل. بحسب الوقائع، أظنّ أنّ التنظيم لن يتنازل بسهولة عن المدينة"، مضيفاً أنّ "ما يُنشر في وسائل الإعلام عن خروج المقاتلين الأجانب وعائلاتهم من الرقّة غير صحيح. ذلك يندرج ضمن حملة إعلامية مصاحبة للحملة العسكرية، يدفع أهالي الرقّة الأبرياء ثمنها دماً".
أبو إبراهيم، فلّاح من قرية مجاورة لمدينة الرقة، يصرّ على تمسّكه بأرضه، رافضاً فكرة الهجرة أو النزوح. ويشدّد على أنّ "لا قوّة تستطيع اقتلاعي من أرضي"، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم ندفع كلّ هذه الأثمان كي نترك أرضنا ونغادر بلادنا. إذا كان الفاتحون الجدد آتون إلى الرقّة كمحتلين، فإنّهم لن ينالوا إلا الخذلان والهزيمة". ويشير إلى أنّهم "أهل حياة لا موت، ولم يكن لنا أيّ دور في أحداث العامَين الأخيرَين"، مضيفاً: "نحن ضحايا. عانينا كثيراً، لكنّنا ما زلنا نأمل أن تنتهي المأساة، لا أن تبدأ مآس أخرى".
في السياق، يبدي أكثر مثقفي الرقّة خشيتهم من تقدّم "قوات سوريا الديمقراطية" تحت غطاء ناري أميركي باتجاه مدينتهم، مع ما يحمل هذا التقدّم من ويلات على المدنيّين داخلها. الخشية هي من تهجير يطاول كثيرين، ومن مجازر قد تُرتكب. بالنسبة إليهم، بات ما يُسمّى "محاربة الإرهاب" ذريعة لممارسات تكتفي منظمات دولية بإدانتها. من جهته، يرى الكاتب عبد السلام فريج أنّ "ثمّة محاولات لتفريغ الرقّة من سكانها كمقدّمة لتنفيذ مشروع ترعاه الولايات المتحدة، يؤدّي إلى سيطرة أحزاب كرديّة على الجزيرة السوريّة التي تضم دير الزور والرقّة والحسكة. وهي المحافظات الأهم اقتصادياً في سورية". ويؤكّد فريج أنّ "ثمّة مخاوف حقيقية على مستقبل الرقّة برمّته، وعلى شمال سورية وشرقها. المدينة اليوم في مهبّ المجهول".