طلائع البعث معتقل كبير للنازحين "الإرهابيين"

26 يناير 2015
العوز والخوف قادا عائلات سورية إلى المعسكر (العربي الجديد)
+ الخط -
في السويداء، إحدى المحافظات الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، والتي تُعدّ "آمنة" كما يقول قاطنوها، أنشأ النظام مركزاً لإيواء المتضررين من الأحداث. أو هكذا سماه. فالمركز أُقيم في معسكر "طلائع البعث"، ويتألف من عدد كبير من الغرف الصغيرة بالإضافة إلى المرافق (مطبخ ومستودع تابع له)، ومدرسة مؤلفة من أربعة طوابق، استخدمت صفوفها لاقامة العائلات، باستثناء عشر قاعات في الطابق الأول ما زالت تستخدم كمدرسة للأطفال النازحين، ومركز صحي متواضع، وعدد من الخيم المصنوعة من القماش والتي تُنصب عندما تضيق الأمكنة، بخاصة مع قدوم نازحين جدد.

بات المعسكر أشبه بمعتقل كبير للنازحين. يدخلون إليه بإرادتهم حين تضيق بهم سبل الحياة، ويعجزون عن تأمين مسكن في المدينة أو ريفها، أو يتملكهم الخوف من ردة فعل أهالي المنطقة، بخاصة أن النظام يشيع أنهم "عائلات الإرهابيين" في درعا وريف دمشق.

في السياق، يقول أبو محمد (نازح من بلدة خربة غزالة في ريف درعا): "لم أكن أرغب أبداً بالمجيء إلى هذا المكان، لكنني خسرت كل شيء. فقد دمر بيتي بالكامل بسبب سقوط قذيفة تابعة للنظام الذي يدعي أنه يحميني. اضطررت للهرب بعائلتي من جحيم القذائف في قريتنا ولم يكن أمامي إلا القدوم إلى هذا المعتقل. يعاملوننا كمجرمين لمجرد أننا من درعا".

أما إيمان التي نزحت من منطقة الحجر الأسود في دمشق، فقد غادرت المعسكر مع عائلتها واستأجرت منزلاً في مدينة السويداء. توضح أن "النظام أطلق شائعات تفيد بأننا إرهابيون، أو على الأقل عائلات إرهابيين يقاتلون الدولة في دمشق، حتى صار أهالي السويداء يخشوننا".

معتقل
على الرغم من تحول معسكر الطلائع إلى مخيم للنازحين، ما زال يُشرف عليه "رفاق" من فرع الطلائع في السويداء. يتولى هؤلاء إدارته كما لو أنه معسكر للطلاب. كما أن هناك سلطة أمنية مطلقة على كل من تلصق بهم تهمة الخيانة بمعزلٍ عن كونهم أطفالاً ونساءً وعائلاتٍ هاربة من الموت في مناطق التماس. يحرسه قنّاصة يتمركزون على سطح المدرسة ومفرزة عسكرية أمنية عند المدخل الوحيد للمعسكر، لمنع دخول أي شخص لا يحمل إذناً من المحافظ أو من فرع الطلائع في السويداء، بالإضافة إلى خروج أي نازح لا يحمل إذن مغادرة ممهور بتواقيع قيادة المعسكر. ويعدّ الحصول على إذن أصعب مهمة يواجهها النازحون.

في السياق، يقول أبو محمد: "حين نضطر لمغادرة المعسكر باتجاه سوق المدينة لتأمين بعض الاحتياجات الضرورية غير الموجودة هنا، أو حتى زيارة المستشفى، نقدم طلباً للقيادة لتبدأ عندها فصول الإذلال والتحكم. إذ ترفض الطلبات بهدف سماع التوسلات، أو يصرون على حضور زوجاتنا أو بناتنا ليقدمن الطلب بأنفسهن. غالباً ما نتراجع عن طلب الخروج، حتى لو كان الثمن صحة أطفالنا".

لا أدوية
في المعسكر مركز صحي مجهّز ببعض المعدات وكادر طبي. عادة ما يتفاخر القائمون عليه بتقديماته. لكن الواقع يناقض كل ادعاءاتهم. يقول أحد الممرضين الذي عمل سابقاً في المعسكر طالباً عدم الكشف عن اسمه: "يستطيع المركز تقديم بعض المسكنات والاستشارات البسيطة، فقط لا غير. ليس هناك أدوية أو معقمات أو ضمادات للجروح والحروق. عندما حاولنا ذات مرة تهريب بعض الأدوية إلى المعسكر، الخاصة بمن يعانون من أمراض مزمنة، اتهمنا بالفساد ونقلنا للعمل في مكان آخر". يضيف: "كان هناك معاناة شديدة بسبب سوء التغذية. إحدى السيدات أطعمت رضيعها خبزاً مبللاً لمدة أسبوعين متتاليين بسبب عدم تزويدها بالحليب، ما أدى لدخوله إلى المستشفى".

تروي إحدى النازحات معاناتها مع المركز الطبي. تقول: "في إحدى ليالي الشتاء، كنت أعد الشاي الساخن لأطفالي، وقع الإبريق على قدم ابنتي (ثلاث سنوات) فهرعت إلى المركز الصحي، علماً أن الحصول على إذن لإسعافها استغرق أكثر من ساعتين، لكنني فوجئت بخلو المركز من أية مواد إسعافية للحروق".

عادة ما يتكفل المسؤولون عن المعسكر بتقديم الطعام للنازحين المقيمين فيه، وهو عبارة عن وجبتين يومياً. تتألف وجبة الفطور من الزعتر (من دون زيت في معظم الأحيان) والبيض المسلوق ورغيف خبز لكل شخص، بالإضافة إلى وجبة الغذاء التي تكون سيئة في الغالب وغير قابلة للأكل.

تقول أم يحيى التي نزحت من قرية الغارية الشرقية في ريف درعا، وهي أم لثلاثة أطفال: "لا أدري ما الذي يمكنني فعله. الطعام الذي نحصل عليه لا يكفي. في معظم الأحيان، أكتفي برغيف خبز طيلة اليوم وأعطي حصتي لأطفالي. أحياناً، أشتري وجبة العائلة التي تقطن في الخيمة المجاورة، كونهم ميسورين ولا يأكلون طعام المعسكر".

من جهته، يشرح رواد، الذي نزح من قرية الكرك في ريف درعا، عن مستودعات الطعام. يقول: "في أحد الأيام، نزلت إلى المستودع للمساعدة. كان مليئاً بكميات هائلة من الطعام، بالإضافة إلى المعلبات. عرفت في وقت لاحق أنها تباع خارج المعسكر لصالح بعض المشرفين عليه".

قمل
بعد مرور أربعة أشهر على بدء العام الدراسي في المدارس النظامية في المحافظة، تحت ضغط شعبي وإعلامي، تم افتتاح ما يشبه المدرسة داخل المعسكر. شكل القاعات يشبه إلى حد كبير مثيلاتها في جميع المدارس. يكمن الفرق في وضع التلاميذ وكيفية تعامل المدرسين معهم. معظمهم يأتون للتدريس مجبرين. تقول إحدى المدرّسات التي رفضت الكشف عن اسمها: "لا أعرف كيف يمر الوقت حتى أنهي ساعت العمل في هذه المدرسة. هؤلاء ليسوا أطفالاً. معظمهم مصابون بالقمل. أيضاً، يعانون من مشاكل نفسية أعجز عن التعامل معها".

بدوره، يقول مدرس آخر رفض الكشف عن اسمه أيضاً إن "هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم سوى أنهم قدموا من مناطق ثارت ضد النظام، فدمرت منازلهم ومدارسهم، ووجدوا أنفسهم في هذا المكان السيئ. تنقصهم كل أشكال الرعاية الصحية والنفسية، بالإضافة إلى غياب النظافة وعدم الاهتمام بالتعليم". جل ما أتمناه فعلاً هو أن أتمكن من مساعدتهم، لأنهم بحاجة إلى ذلك. إلا أنه ليس في اليد حيلة".