خيط ذهبي في ثوب حداد

16 سبتمبر 2019
(رسم لـ سام كالدا عن رحلته لليمن)
+ الخط -

الطريق المعرِّجة بنا من قرية مناخة إلى صنعاء ممتدة على طول يكاد لا ينتهي. كنّا أربعة في عربة صغيرة وكانت الأخيرة تنطلق بسرعة مخيفة تطوي الأسفلت كطي السجل للكتب، وأنا أتشبّث بالمقعد حتى لا يفلت مني أو أفلت منه.

الشمس تبدو لي في مرآة اليمين الصغيرة حزينة كقوس قزح وهي تودّعنا بشفق أحمر كالعقيق، والسماء ترسل لنا قبلاتها في الندى المتساقط برشاقة على زجاج السيارة العابرة. كل شيء خلال هذه الرحلة الفجائية كان يغازلنا ويرسل لنا بريد محبته؛ تطول الطريق أمامنا لأنها لا تريد فراقنا وكل حفرة فيها كانت تتشبّث بإطارات العربة كأنها غريق يحاول التمسك بأي قشة علّها تنقذه.

يخبرني أحد الرفاق: "السماء بليدة جداً!". نلتفت إليه بغرابة، أضيف "صنعاء كفيلة بالغرض"، ونضحك سوياً بصوتٍ عالٍ لا نهاية لصدى تردداته.

على التبّة المحاذية لسوق بني مطر ينسج الضباب جدرانه الوهمية التي تمتد في الهواء قاطعة الطريق أمامنا لتوقفنا فيفضح لعبته الماكرة ضوء مصابيح المسافرين ونحن.

تختفي الطريق ثم تظهر في دعابة، فنرى الضوء يسبح في الضباب المنفوش أو كأن الضباب هو من يتراقص في خيوط الضوء.. هكذا بدا لي المشهد في لحظات، كأنني وأصدقائي تائهون على سطح كوكب خيالي.

يوقفنا أحد الباعة المتجولين بالقرب من جبل النبي شعيب، لوهلة ظننت أنه يحمل في صرته أكياس شجرة القات التي اعتاد اليمنيون تناولها منذ مئات السنين، هذه المنطقة شهيرة بزراعة نوعية جيدة منه كما سمعت عنها في المدينة، لكن ظنوني سرعان ما تبدّدت حينما اقترب منّي يعرض عليّ حفنة من اللوز اليمني. لم أكن أملك ثمنها فاعتذرت له بابتسامة لم تلق رده. لعله غضب مني.

يخيّم الصمت على رحلتنا، وتطول الطريق التي قطعناها بصعوبة من يسبح في رمال متحركة، حينها كان الظلام قد كسا كل الأرجاء فانزاح نقاب الضباب ليكشف عن وجه حسناء هشّم وجهها جدري الحرب وحروق نيران الصواريخ الساقطة على جسدها العذري فبدت لي حزينة في تناهيدها التي كادت تنتزع قلبي وقد أحاطت بعنقي محاولة خنقي لحظة وجع.

أذكر قصة حدثتني بها أُمي عن هذه الفاتنة، قالت لي "ليس في المعمورة شبيهة بصنعاء. هذه المدينة العتيقة يا ولدي هي من ألهمت علماء الهندسة المعمارية فن النقش المعماري"، لكنني لم أكن أعرف ما تقوله أُمي، حينها كنت طالباً في الصف الرابع في قرية نائية تبعد عن الطريق الأسفلتي مسافة ساعات يعبرها الأهالي مشياً ولا تزال.

حين هبطنا جبل عَصِرْ قادمين من مَتْنَة كانت صنعاء العذراء مكتسية بلباس الموت، كانت مظلمة إلا من شارع واحد بدا كالخيط الذهبي في ثوب حداد أسود. رغم ذلك عانقتنا بلهفة، ثم قبلتنا قبلة دافئة أذابت كل ما في قلوبنا من مشاعر الحب والصبابة، وأدركت لحظتها أنها أُمي.


* كاتب من اليمن

المساهمون